إعداد: محمد اليوبي- نعمان اليعلاوي- كريم أمزيان
كشفت التقارير التي أصدرها المجلس الأعلى للحسابات، خلال السنوات الأخيرة، وجود اختلالات خطيرة في تدبير المال العام. فرغم الأهمية التي تكتسيها هذه التقارير، فإن هناك قصورا في النصوص القانونية المتعلقة بإحالة هذه الملفات على القضاء، وتحريك المتابعة القضائية في حق المتورطين، وكذا، محدودية الرقابة التي يمارسها قضاة هذه المحاكم لعدم توفرها على قوة الردع، ما كرس نهب المال العام وسوء التدبير وتبذير الأموال العمومية. لذلك يبقى التساؤل مشروعا حول مصير تقارير المجلس، وخاصة منها تلك المحالة على وزارة العدل والحريات؟
خصص الدستور الجديد حيزا هاما للمجلس الأعلى للحسابات، وهو ما يبرز الأهمية التي تحظى بها هذه المؤسسة في مراقبة تدبير المال العام. وأعطى الدستور الأهمية القصوى للتقارير التي يصدرها المجلس، واعتبر أنه هو الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، ويضمن الدستور استقلاله، ويمارس المجلس مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية، ويتولى ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية. ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.
وحسب مدونة المحاكم المالية، فإن تحريك المتابعة القضائية يكون مشروطا بمجموعة من الشروط والمساطر. وتنص المدونة على أنه إذا اكتشف المجلس أفعالا من شأنها أن تستوجب عقوبة تأديبية، أخبر الوكيل العام للملك بهذه الأفعال، السلطة التي لها ﺣق التأديب بالنسبة للمعني بالأمر، والتي تخبر المجلس خلال أجل ستة أشهر في بيان معلل بالتدابير التي اتخذتها، أو إذا كان الأمر يتعلق بأفعال يظهر أنها قد تستوجب عقوبة جنائية، رفع الوكيل العام للملك الأمر من تلقاء نفسه أو بإيعاز من الرئيس الأول، إلى وزير العدل قصد اتخاذ ما يراه ملائما، وأخبر بذلك السلطة التي ينتمي إليها المعني بالأمر، ويخبر وزير العدل المجلس الأعلى للحسابات بالتدابير التي اتخذها.
هذا وحددت المدونة الأشخاص المعنيين بالمسطرة المتعلقة بالميزانية والشؤون المالية، وتشمل حسابات المحاسبين العموميين والموظفين والأعوان الذين يعملون تحت سلطتهم أو لحسابهم، وعلى كل مراقب الالتزام بالنفقات والمراقبين الماليين والموظفين والأعوان العاملين تحت إمرتهم أو لحسابهم، كما أنها رقابة تمارس في حق الآمر بالصرف والآمر بالصرف المساعدين وكذا الأعوان الذين يشتغلون تحت سلطتهم أو لحسابهم في نطاق اختصاصاتهم المالية. وتختص المحاكم المالية بالبت والتدقيق والتحقيق في طرق تدبير العمليات المالية العمومية من مداخيل ونفقات الميزانية العامة لتحديد المسؤولية عن أية اختلالات تشوبها ومعاقبة التجاوزات والخروقات الثابتة في حق المعنيين بالأمر، وتسري العقوبات المنصوص عليها في مدونة المحاكم على كل آمر بالصرف أو آمر مساعد بالصرف أو مسؤول، وكذا كل موظف أو عون يعمل تحت إمرتهم أو لحسابهم، إذا ما اقترفوا، أثناء ممارسة مهامهم، إحدى المخالفات المالية المنصوص عليها في الفصل المذكور.
ويرى خبراء القانون أن مسطرة المتابعة تبقى منقوصة، لكونها تستثني من الرقابة والمتابعة أهم فئة من الآمرين بالصرف، وهم الوزراء الذين يديرون المالية العامة في منبعها، وهو ما يؤثر على نجاعة المحاكم المالية في الرقابة، ويجعل مراقبة المال العام محدودة، أمام صعوبة إثارة المسؤولية الجنائية للوزراء أمام المحاكم.
وتنص المادة 52 من مدونة المحاكم المالية، على أنه لا يخضع للاختصاص القضائي للمجلس الأعلى للحسابات، في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس النواب ومجلس المستشارين عندما يمارسون مهامهم بهذه الصفة.
وبخصوص الإجراءات المسطرية للتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، فإنه، بخلاف مسطرة البت في الحسابات، فان مسطرة التأديب المتعلق بالميزانية تتميز بمسطرة خاصة في طريقة تحريك المتابعة وفي سير المسطرة. وطبقا للفصل 57 من قانون المحاكم المالية، فإن اختصاص تحريك المتابعة مسنود للوكيل العام أو وكيل الملك بالمجلس الأعلى للحسابات، تلقائيا او بطلب من الرئيس الأول أو إحدى هيئات المجلس، كما يمكن أن يتوصل الوكيل العام بتقارير الرقابة أو التفتيش مشفوعة بالوثائق المثبتة تستوجب المتابعة من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو الوزير المكلف بالمالية، أو الوزراء في ما يخص الأفعال المنسوبة إلى الموظفين والأعوان العاملين تحت سلطتهم، أو العاملين في المؤسسات الخاضعة لوصايتهم. وبالنسبة للمجالس الجهوية للحسابات، فإن القضية ترفع بواسطة وكيل الملك إلى المجلس من طرف وزير الداخلية والوزير المكلف بالمالية، بعد الإدلاء بتقارير الرقابة أو التفتيش مشفوعة بالوثائق المثبتة طبقا للفصل 138 من قانون المحاكم المالية.
وإذا اقتنع الوكيل العام أو وكيل الملك، حسب الحالة، بثبوت الأفعال في حق المعنيين بالأمر، فانه يقوم بالمتابعة ويتقدم إلى رئيس المجلس بملتمس تعيين مستشار مقرر مكلف بالتحقيق، ويبلغ المعنيين بالأمر بالمتابعة وفقا لقواعد المسطرة المدنية في التبليغ، كما يخبر الوزير المعني ووزير المالية والوزير الوصي على الإدارة التي يعمل بها المتابع. لكن إذا لم يقتنع بثبوت الأفعال المنسوبة للمعني بالأمر، فإنه يحفظ القضية بقرار معلل ويبلغ ذلك للجهة التي عرضت عليه القضية، أن قرار الحفظ هذا ليس قرارا نهائيا، وإن كان لا يقبل الطعن، وإنما يمكن التراجع عنه كلما ظهرت وسائل جديدة لإثبات المخالفات المنصوص عليها بالفصول من 54 إلى 56 من قانون المحاكم المالية.
هذا وما زال الجدل قائما حول مصير الملفات الواردة في التقرير، والتي تتطلب متابعة جنائية، وهو ما يطرح إشكال حدود التماس بين الحكومة والقضاء في إحالة ملفات قضاة المجلس الأعلى للحسابات، وبين الجدل المطروح حول حدود العلاقة بين السلطتين القضائية والتنفيذية في التعامل مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات، يرى البعض الآخر، أن المؤسسة التشريعية يجب أن تلعب دورها المطلوب كذلك في تفعيل الآليات الرقابية الموكولة للبرلمان لترسيخ الحكامة ومكافحة الفساد، من خلال إعادة النظر في القانون المنظم للمجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات، وذلك من أجل تدارك الثغرات التي تشوبه، مؤكدين أن الممارسة أبانت عن عدة إكراهات ونواقص تعترض مختلف مكوناته وتحد من نجاعته وفعاليته بوصفه ركيزة أساسية لسياسة محاربة الفساد. ولذلك فإن البرلمان مطالب بتعزيز دوره التشريعي والرقابي من أجل ضمان الانخراط الفعلي في مكافحة الفساد وإرساء أسس المساءلة والشفافية في تدبير المال العام من خلال الرقابة المالية.
المسكاوي : «تقارير جطو تصبح وثائق بدون معنى ومجرد عمل للأرشيف»
قال محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، إن المجلس الأعلى للحسابات يمثل الجهاز الرقابي ذا الطبيعة شبه القضائية على مستوى صرف المال العام، مشيرا إلى أن الشبكة طالبت بتفعيل دور وتوسيع اختصاصات المجلس وتمكين قضاته من القيام بمهامهم القضائي، على اعتبار أن حجم الأموال العامة التي يتم نهبها أو تبذيرها سنويا في كافة القطاعات والمؤسسات، تتطلب وجود مؤسسات قوية حتى تتمكن من وقف هذا النزيف الذي يؤثر بشكل مباشر وخطير على التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا.
وسجلت الشبكة المذكورة، حسب المسكاوي، بإيجابية عمل المجلس الأعلى للحسابات، خلال السنوات الأخيرة، في إصدار تقارير سنوية منتظمة تهم عدة قطاعات، والتي تمكن الرأي العام من معرفة طرق اشتغال المؤسسات العمومية والجماعات المحلية والاختلالات التي تقع، وآخرها تقرير سنة 2014، لكن وفي ظل غياب الإرادة الحقيقية للحكومات المتعاقبة وأجهزة الدولة ككل في محاربة الفساد، فإن تقارير المجلس الأعلى للحسابات تصبح وثائق بدون معنى، ويصبح المجهود القضائي مجرد عمل للأرشيف، وهو ما يشجع البعض على التمادي في نهب وتبذير المال العام، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى عدم التجاوب مع قضاة المجلس والإجابة على ملاحظاتهم.
وأضاف المسكاوي، «إننا في الشبكة المغربية لحماية المال العام نعتبر الوقت قد حان من أجل فتح حوار وطني، لكي يتحول المجلس الأعلى للحسابات إلى قضاء قائم بذاته ومتخصص في مجال الجرائم الاقتصادية، انسجاما مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، واستثمارا للتراكم الذي حققه منذ سنة 2002، تاريخ إصدار قانون مدونة المحاكم المالية، خاصة وأن المؤسسة البرلمانية تناقش الآن مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة».
«وفي انتظار تحقيق مطلب القضاء المتخصص، يقول المسكاوي، نعتبر أن عمل المجلس الأعلى للحسابات يجب أن يكون ضمن منظومة متكاملة للرقابة على المال العام إلى جانب باقي المؤسسات، وضرورة التنسيق التام مع الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وإعادة النظر في قانون المحاكم المالية، خاصة الشرط المتعلق بإحالة الأفعال ذات الطبيعة الجنائية التي تأتي في التقارير إلى وزارة العدل، بناء على رسالة من الوكيل العام لدى المجلس، وهو شرط يجب حذفه، لتصبح المتابعة القانونية عادية ومسطرية بدون الحاجة إلى رسائل إحالة، لتفادي التضارب الذي قد يقع بين المجلس ووزارة العدل، كما حصل سابقا».
ودعا رئيس الشبكة المغربية للمال العام الحكومة إلى الاستثمار المالي في المجلس الأعلى للحسابات، من خلال الزيادة في عدد قضاته وأطره، بالنظر إلى الأدوار الموكولة إليه وتوفير التكوين المستمر بفعل تطور الجرائم المالية، والتفاعل نفسه مطلوب من المؤسسة البرلمانية من خلال دراسة تلك التقارير وترجمة بعض النقائص والثغرات إلى مقترحات قوانين.
ومن جهة أخرى، وحتى يصبح عمل المجلس الأعلى للحسابات أكثر قوة، حسب المسكاوي، فقد أصبح مطلوبا منه وضع آلية قانونية توضح الاستراتيجية السنوية لعمليات المراقبة، لتفادي مقولة الانتقائية، وإصدار تقرير تكميلي يوضح الإجراءات التي اتخذت بناء على التقرير السنوي من طرف الجهات التي شملها التقرير. كما أننا نعتبر قيام المجلس المذكور بافتحاص بعض المؤسسات العمومية الكبرى التي تحتاج إلى قرار سياسي، مثل المكتب الشريف للفوسفاط وصندوق الإيداع والتدبير، سيكون إشارة قوية في اتجاه ترسيخ مبادئ الاستقلالية والحياد وخضوع الجميع لسلطة القانون.
وأشار المسكاوي إلى أن عدم التفاعل الحكومي مع هاته المقترحات وغيرها لتطوير عمل المجلس الأعلى للحسابات، في أفق إنشاء قضاء متخصص، سيزكي خلاصتنا في غياب الإرادة والشجاعة لمحاربة الفساد وانتصاره على شعارات الحكومة وبرامجها، وبالتالي الاستمرار في تحمل التكلفة الثقيلة الاجتماعية والاقتصادية للفساد والرشوة.
بنيعقوب : «السلطة القضائية الرقابية أصبحت تحت وصاية السلطة التنفيذية السياسية»
- بمناسبة صدور تقرير المجلس الأعلى للحسابات، كيف ترى عمل هذه المؤسسة الدستورية؟
قبل الحديث عن عمل المجلس الأعلى للحسابات، يتعين توضيح بعض الأمور المتعلقة بهذه المؤسسة الدستورية والمرتبطة أساسا بمكانتها داخل هرمية الدولة وبطبيعتها القانونية.
وكما هو معروف، تمتعت هذه المؤسسة منذ دستور 1996 بترتيبها ضمن المؤسسات الدستورية للدولة نظرا لتزايد أهميتها في ضبط النظام العام المالي عن طريق مراقبة المحاسبين العموميين والآمرين بالصرف سواء المعينين بشكل رسمي طبقا للقانون أو المسيرين بحكم الواقع لكيفية استعمالهم للمال العام ولمشروعية الإنفاق والالتزام المالي واستخلاص الموارد في إطار القوانين المالية وكذلك مراقبة التدبير الإداري للقطاعات العامة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية وتقييم أدائها ونجاعة عملها باستعمال التحقيقات والتحريات اللازمة إن اقتضى الأمر، وعموما تنقسم اختصاصات المحاكم المالية على رأسها المجلس الأعلى للحسابات إلى شقين، شق إداري مرتبط بالمهام أعلاه وشق قضائي متعلق بإصدار الجزاء التأديبي عن جميع المخالفات المرتبطة بعدم احترام القواعد المالية والمحاسبية للعمليات المالية المختلفة.
من هنا تطرح مجموعة من التساؤلات الأولية المرتبطة بصفة وهوية المؤسسة.
على مستوى الشكل، تناول الدستور في بابه السابع والثامن على التوالي السلطة القضائية والمحكمة الدستورية التي تعززت طبيعتها القضائية ليتناول في الباب العاشر المجلس الأعلى للحسابات بعد أن فصل المكلفين بصياغة وثيقة الدستور بين هذا المجلس والسلطة القضائية عموما بالباب التاسع الذي أفرده الدستور للجماعات الترابية، الشيء الذي لا يمكن أن يكون مجرد عمل تقني بسيط أو ترتيب للمؤسسات بقدر ما يعد إشارة تم تداولها من قبل لجنة الصياغة متعلقة بالطبيعة القضائية للمؤسسة. ويمكن القول دون مجازفة إن المجلس الأعلى للحسابات وباقي المحاكم المالية الجهوية لا تحمل من القضاء سوى الأسماء من قبيل محكمة؛ قضاة؛ جلسات؛ مساطر حضورية؛ أحكام وغيرها لتبقى في عمقها مؤسسات رقابة إدارية خارجية مستقلة، أولا لغياب سبب وجود مؤسسات القضاء وهي البت في النزاعات والخصومات والحال هنا أنه لاوجود لنزاع معين بين أطراف متخاصمة بقدر ما هو جزاء تصدره الدولة على موظفيها أو المتدخلين في تسيير ماليتها ومرافقها. وتاريخيا معروف أن نابليون عندما فكر في إعادة تنظيم رقابة الدولة على النظام المالي العام لإعطائه المكانة والهيبة التي يستحقها وبما أنه كان عصر ازدهار القضاء ورقيه لم يجد نابليون تسمية أسمى من الانتساب للقضاء.
- هل يطرح هذا التداخل إشكاليات بخصوص إحالة تقارير المجلس على القضاء؟
المجلس الأعلى للحسابات ليس جهة قضائية مكلفة بتتبع الجريمة المالية أو الاقتصادية وإنما بإمكانه إحالة النظر، وليس المتابعة وبينهما فرق كبير، على وزير العدل باعتباره رئيسا للنيابة العامة لاتخاذ القرار في المتابعة أو عدم المتابعة في حال وجود شبهة أو عمل جرمي يستحق عقوبة جنائية حسب ما يراه ملائما سياسيا. وهنا يصبح «القضائي الرقابي» إن صح التعبير تحت وصاية السياسي وتحت وصاية الجهاز التنفيذي للدولة عكس التجربة الفرنسية وعكس معظم التجارب الأوروبية التي متعت النيابة العامة لدى المحاكم المالية باللجوء مباشرة للقضاء العادي لمتابعة المشتبه فيهم جنائيا بارتكاب جرم ذي طابع مالي عمومي.
ولا ندري مستقبلا مع تفعيل القانون التنظيمي الجديد للسلطة القضائية هل سيصبح التعامل مباشرا بين النيابتين العامتين أو مع أقسام الجرائم المالية بمحاكم الاستئناف دون المرور عبر وزير العدل أو أي جهاز حكومي آخر.
- هل هناك تداخل في العمل الرقابي المالي في المغرب؟
نسبيا نعم وربما أحيانا تضاد في الأهداف لنفس المهام تقريبا. فعندنا المفتشية العامة التابعة لوزارة المالية والتي ينحسر دورها عموما في مراقبة مدى تطبيق قواعد المالية العمومية المحاسباتية في تسيير القطاعات والمرافق العمومية ثم هناك المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية التي تراقب التسيير المالي والإداري للجماعات الترابية. غير أن وظيفة التفتيش هاته داخلية وتدخل في إطار التفتيش التسلسلي غير أن للمحاكم المالية وظائف واختصاصات أخرى سواء تلك التي حددها الدستور والقوانين أو تلك المهنية المتعارف عليها دوليا. إضافة إلى اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات المذكورة أعلاه بشكل موجز فقد عهد له أيضا بوظيفة تدخل في إطار التخليق والمرتبطة بمراقبة طرق تدبير الدعم المالي العمومي للأحزاب في سيره العادي أو أثناء الانتخابات، وكذلك مراقبة الذمة المالية لعدد من الشخصيات العمومية والمسؤولين كما عهد له أيضا إسناد الحكومة والبرلمان في إعطاء الاستشارة اللازمة، وكذلك في تقييم السياسات العمومية مع إلزامية إعداد تقارير سنوية ونشرها في الجريدة الرسمية، وهي اختصاصات فريدة تميزه عن باقي أجهزة الرقابة. ومع ذلك من خلال تتبع عمل هذه المؤسسة قد يستشف الانطباع بكونها ظلت حبيسة القواعد المسطرية المالية والنصوص الصارمة مكتفية بإصدار الآراء والاستشارات والتقارير مما جعلها تقوم مقام «مكتب دراسات عمومي» ومجرد منشط للنقاش المالي ولم يرق بعد إلى دور المؤسس الحقيقي لثقافة احترام قدسية المال العام وتخليق الحياة السياسية واكتفائه بتلقي وتسجيل الوثائق المالية للأحزاب من دون تدقيقها والتحري فيها في الميدان وفي مصادرها.
- في ما يتعلق بهذه التقارير ماذا عن قيمتها القانونية؟
التقارير المنجزة سنويا هي وثائق إدارية وصفية، تعنى بإعطاء نظرة عن العمل التدقيقي والرقابي الذي قام به المجلس، يضع فيها أهم مستنتجاته وملاحظاته حول المرافق العمومية التي قام بافتحاصها وحول الأحزاب السياسية مع إبداء رأيه حول الوضعية المالية العامة وعلى الأداء التدبيري لجهاز الدولة عموما وليس له أي إلزامية قانونية أو قيمة معيارية قضائية. ويمكن تلخيص أهداف هذه التقارير إلى ثلاثة أهداف:
أولا هدف تواصلي إشعاعي استهلاكي، حيث يوجه الرأي العام والمواطن عموما إلى نقاش حول مستنتجات المجلس الذي يختار المواضيع المطروحة بعناية وربما يتغاضى الطرف عن مواضيع ذات طابع مالي أكثر حساسية.
ثانيا هدف علمي بيداغوجي حيث يتم تعميم المعلومة المالية والمساطر المتبعة في عمليات التدقيق والمراقبة وكذلك في توجيه المسيرين وتنبيههم لأهم الشروط الواجب احترامها، خصوصا تلك المتعلقة بمراقبة التدبير le contrôle de gestion، غير أن هذا الهدف ربما قد يؤدي إلى خلق عقلية مترددة داخل الإدارة العمومية وثقافة الخوف من إبداع الحلول في التسيير والإكتفاء بالنصوص والقواعد الجامدة التي قد لا تغطي عددا من المشاكل التدبيرية المستجدة يوميا.
وأخيرا هدف سياسي من خلاله يبرز المجلس تدخله في المسار التقريري والتدبيري لمختلف قطاعات ومرافق الدولة والتنظيمات السياسية الشيء الذي يفسر توجه المجلس منذ مدة وجيزة إلى تسليط الضوء على التسيير المالي للأحزاب السياسية اللهم إلا إحراجها أمام الناخب وبمثابة جزاء سياسي مبطن.
الغلوسي : «هناك انتقائية في إحالة تقارير جطو ذات الصبغة الجنائية على القضاء»
أكد مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، خلال اللقاء الذي كان عقده بحضور عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، لعرض ما سماه حصيلة قطاعه، أنه يحيل كل التقارير المتعلقة بالفساد التي ترد عليه من المجلس الأعلى للحسابات أو اللجنة المركزية لمحاربة الرشوة، أو من الوزراء أو من البرلمان (أغلبية ومعارضة)، وكذا الشكايات أو الوشايات التي تحيلها عليه الجمعيات أو المواطنون.. غير أن هذه الملفات، بحسب محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، تبقى ضئيلة جداً، حيث أشار إلى أن «المجلس الأعلى للحسابات يمارس الانتقائية في التعاطي مع ملفات الفساد المالي»، فضلاً عما وصفه بـ«انتقائية في إحالة التقارير ذات الصبغة الجنائية التي يرصدها قضاة ومفتشو المجلس، والتي تتعلق بالفساد المالي وسوء التدبير»، مشدداً على «أن المادة 111 من قانون المحاكم المالية تفرض على الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، إحالة التقارير ذات الصبغة الجنائية على وزارة العدل من أجل إحالتها على القضاء»، في حين أن آخر بلاغ صدر عن وزارة العدل قبل أيام يشير إلى أنه تمت إحالة ملفات 3 مؤسسات و21 جماعة، على النيابة العامة المختصة، بناء على تقارير قضاة إدريس جطو.
يأتي ذلك بعد الانتقادات التي وجهت إلى مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، بخصوص تأخره في إحالة ملفات المؤسسات والجماعات التي تفحص قضاة جطو ماليتها وحساباتها، وتبين لهم وجود اختلالات جاءت مفصلة في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، حيث أحال الوكيل العام لدى الملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، على الرميد ملف إحدى المؤسسات التي تضمنها تقرير المجلس الأعلى لسنة 2013، ما جعله يأمر بإحالته فورا على النيابة العامة المختصة، لإجراء الأبحاث اللازمة بشأنه، والتأكد من صحة الاختلالات والفساد الذي يشوبها، بعدما كان الرميد أكد، في وقت سابق، أن وزارته قررت إرجاء إحالة ملف سوء التدبير الخاص بالجماعات المحلية، والذي كشفه تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، إلى ما بعد الانتخابات الجماعية والجهوية، ما جعل كثيرين يتساءلون عن خلفيات هذا القرار الذي صدر عن المسؤول الأول عن ملف التجاوزات التي يعرفها تدبير المالية العمومية، فيما آخرون تساءلوا عن الدور الذي يقوم به مجلس جطو، مخافة أن لا تجد ملفات التجاوزات التي تلخصها تقاريره السنوية طريقها إلى القضاء، قبل أن تعلن الوزارة إحالتها الملفات على النيابات العامة المختصة.
بدوره، لفت الغلوسي الانتباه إلى «الملفات التي تتم إحالتها دون إجراء البحث فيها، دون الحديث عن الملفات التي تتم إحالتها دون أن تجري بشأنها المساطر الجاري بها العمل، فيما أخرى تتأخر بخصوصها الإجراءات، حتى يطولها النسيان»، وهو ما جعله يتساءل هل تتم إحالة ملفات الفساد المالي هذه على «الثلاجة»؟
وبالرجوع إلى تقرير حول منجزات وزارة العدل والحريات، نجد أن عدد الملفات التي توصل بها المجلس ما بين 2001 و2015، يبلغ 83 ملفاً، أحيلت كلها على النيابة العامة، منها 38 ملفاً من سنة 2001 إلى سنة 2011، فيما باقي الملفات المحالة خلال الولاية الحكومة الحالية، جرت إحالتها على محاكم الاستئناف بالرباط والدار البيضاء وفاس، عددها 15 خلال سنة 2012، 5 تم التوصل بها من المجلس الأعلى للحسابات وملف واحد من قبل وزارة الاتصال، و9 ملفات تمت إحالتها في إطار الدراسة التي قامت بها لجنة على ضوء تقرير المجلس الأعلى للحسابات، لسنة 2010، بينما خلال سنة 2013، تمت إحالة ملف واحد على قسم جرائم الأموال بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالرباط، أما في سنة 2014، فقد تمت إحالة 24 ملفا على محكمتي فاس والدار البيضاء، 2 منها تم التوصل بها من المجلس الأعلى للحسابات، و21 تمت إحالتها في إطار الدراسة التي قامت بها لجنة على ضوء تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2012، أما في السنة الماضية، فقد تمت إحالة خمسة ملفات على محكمتي مراكش والدار البيضاء.
وتشير المعطيات إلى أن هذه الملفات، 2 منها تم حفظهما، فيما 10 صدر فيها حكم نهائي، بينما 16 كانت قيد المحاكمة، أما 10 فما زالت في طور التحقيق الذي يجريه قضاة التحقيق، فيما 45 ملفا مازالت في المرحلة الأولى المتعلقة بالبحث التمهيدي الذي تجريه الشرطة القضائية بتعليمات من النيابة العامة، قبل إحالتها على قاضي التحقيق.
وقال محمد الغلوسي إن جمعيته رصدت بشكل واضح أن «الحكومة، التي كانت تؤكد أنها ستحارب الفساد ونهب المال العام، وستقطع مع الريع بأصنافه، كانت توظف هذه الشعارات للدعاية والاستهلاك وكسب ود الناخبين، وتم الركوب على هذه الشعارات من أجل تحقيق أهداف انتخابية وسياسية»، موضحا أنه «في مقابل ذلك رفعت الحكومة الحالية شعار «عفا الله عما سلف»، وهو الأمر الذي قال الغلوسي إنه يعتبر «بمثابة رفع الراية البيضاء في مواجهة الفساد والإفلات من العقاب ونهب المال العام»، مضيفا أن «الحكومة لم تستطع تحريك الملفات المتعلقة بنهب المال العام، وحتى التي أحيلت منها على القضاء ظلت حبيسة الرفوف»، الأمر «الذي نسجله في نهاية ولاية هذه الحكومة على بعد أربعة أشهر، ونسجل أنها طبعت مع الفساد ويستحيل عليها محاربته كما ادعت في وقت سابق، بل إنها عملت على بقاء الملفات المتعلقة بالفساد دون أن تجسد ربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع، كما لم تعمل على تفعيل المقتضيات الايجابية الدستورية المتعلقة بربط المسؤولية بالمحاسبة، من ضمنها توسيع صلاحيات هيئات الحكامة، من قبيل الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة والتي ظلت هيئة استشارية، دون أن يتم تمتيعها بالصلاحيات التي تمكنها من محاربة الرشوة في ما يتعلق بإحالة الملفات على القضاء، ودون أن تكون لها إمكانيات ولا موارد للتصدي للرشوة وتتمكن من أجرأة محاربتها»، يقول المتحدث ذاته.
من جانب آخر، قال الغلوسي «إن المغرب تراجع، في مؤشرات الفساد الصادرة عن منظمة الشفافية العالمية، من الرتبة الثمانين سنة 2008 إلى الدرجة 93 عالميا في 2013»، وهو ما يوضح حسبه «أن منسوب الفساد المالي قد ارتفع إلى معدلات قياسية، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على مناخ الاستثمار ويترجم أيضا فشل الحكومة في جلب الاستثمار وخلق مجال أرحب للاستثمار الخارجي في المغرب، والتي من شأنها تعزيز تنمية البلاد من خلال الرفع من معدلات التشغيل والنمو والمؤشرات الاجتماعية الإيجابية، بل تواجه في ظل الحكومة الحالية حواجز إدارية قانونية بالإضافة إلى إكراهات الزبونية والرشوة وعدم استقلال القضاء وبيروقراطية المساطر الإدارية، وهذه الحكومة لم تستطع ربط المسؤولية بالمحاسبة، بل طبعت مع الفساد بشكل واضح وكرسته بل طمأنت المفسدين وناهبي المال العام بأن مصالحهم لا تمس».
3 أسئلة : إلى محمد الأعرج : «هناك غياب لآليات التنسيق بين القضاء المالي والقضاء الجنائي»
- أين يتم تصنيف الرقابة التي يمارسها المجلس الأعلى للحسابات من خلال التقارير الصادرة عنه؟
يشكل هذا النوع من الرقابة رقابة خارجية بعدية لمؤسسة دستورية مستقلة عن الحكومة والبرلمان، وهي سلطة قضائية متخصصة تصدر الأحكام التأديبية والعقوبات المالية على القائمين بمسؤولية تنفيذ العمليات المالية، كما تقوم بدور توجيهي وتقييمي للمؤسسات العمومية، وهي تندرج ضمن القضاء المالي المتخصص.
فالقضاء المالي، من خلال المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات، مخول من طرف المشرع النظر في حساب المحاسبين العموميين، وتسمى رقابة قضائية، ومراقبة التسيير وتسمى مراقبة إدارية، بالإضافة إلى التأديب المالي المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، ويسمى قضاء ماليا تأديبيا.
وبالتالي فإن المشرع هدف، من خلال تأسيس هذا المجلس، إلى تدعيم الرقابة على الأموال العمومية، بإنشائه مراقبة لاحقة عليها، بخلاف النظام القديم الذي كان يعطي الأسبقية للمراقبة السابقة، مما كان يؤثر سلبا على أعمال المتصرفين في الأموال العمومية.
فالمجلس الأعلى للحسابات هيأة قضائية تتمتع باستقلال إداري ومالي وبميزانية خاصة وأطر متخصصة تخضع لنظام أساسي خاص.
وهي كذلك سلطة قضائية تصدر الأحكام التأديبية والعقوبات المالية على القائمين بتنفيذ العمليات المالية، ما يوضح أهميتها ودورها في المحافظة على المال العام، وذلك من خلال هيئاتها المتمثلة كذلك في المجالس الجهوية للحسابات.
- كيف يمكن ربط المسؤولية بالمحاسبة في إطار الاختصاص القضائي للمجلس الأعلى للحسابات؟
لقد أولى المشرع المغربي اهتماما خاصا للأجهزة المكلفة بحماية المال العام، وخاصة تلك التي تعنى بالرقابة القضائية التي تشكل إحدى الركائز الأساسية التي ينبني عليها صرح التدبير الحكماتي للشأن العام بكل تجلياته الإدارية، الاقتصادية، والمالية والثقافية.
وتكريسا للبعد الحكماتي في تدبير الشأن العام، من خلال ربط المسؤوليات العمومية بالمحاسبة، كمقوم من المقومات التأسيسية للنظام الدستوري الجديد، أسس دستور 2011، ولاسيما في بابه العاشر، مجموعة من القواعد والمبادئ المؤسساتية المتطورة في منظومة الرقابة والمحاسبة.
وفي هذا الإطار، يتولى المجلس الأعلى للحسابات اختصاصات متنوعة في مجال تدخلاته الرقابية التي أشرنا إليها، والتي غالبا ما يتم حصرها في مجالين اثنين، ويتعلق الأمر بالاختصاص القضائي، الذي تتحدد ملامحه العامة في تتبع مدى تقيد المحاسبين العموميين على اختلاف مواقعهم بقواعد المحاسبة العمومية، بالإضافة إلى اختصاص إداري بتجاوز الوقوف على مدى الالتزام بالمقتضيات القانونية في تسيير المال العمومي للاهتمام بجانب التسيير والمردودية، والمرتبطة أساسا بالحكامة.
وانطلاقا من رقابته المؤسساتية على تدبير الشأن العام، بإمكان المجلس الأعلى للحسابات رصد الاختلالات والتجاوزات المرتبطة بالتدبير، والتي من شأنها ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكن الإشكال في هذا الإطار يلاحظ في غياب التنسيق بين عمل المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات ما يؤثر على فاعليته.
فمهمة تقسيم الاختصاصات والسلطات بين المجلس الأعلى للحسابات، بصفته هيئة مركزية، والمجالس الجهوية للحسابات باعتبارها هيئات لامركزية للافتحاص والرقابة القضائية على الصعيد الترابي.. تقتضي التعاون والتنسيق بين هاته الوحدات الرقابية. ويلاحظ في هذا الصدد، أن المشرع المغربي لم ينظم بشكل دقيق مجالات التنسيق بين المحاكم المالية الجهوية والمجلس الأعلى للحسابات. كما يلاحظ غياب مقتضيات تتعلق بآليات ووسائل التنسيق بين هيئتي القضاء المالي المركزي والجهوي، خلافا لتجارب العديد من الدول.
فالتعاون والتنسيق بين مكونات القضاء المالي المغربي يبقى، بطبيعة الحال، من الأمور المشروعة بين مختلف الوحدات المكلفة بالافتحاص والمراقبة. سعيا إلى تعزيز فاعلية مؤسسات القضاء المالي وتنزيل مقتضى ربط المسؤولية بالمحاسبة.
- كيف يمكن تجاوز إشكالية عدم فاعلية الرقابة القضائية في حماية المال العام، خصوصا في ظل العديد من التقارير التي ترصد الاختلالات والتجاوزات؟
إن الأحكام الصادرة عن المحاكم المالية لا يكون لها سوى قوة نسبية للشيء المقضي به، مقارنة مع قرارات القاضي الجنائي التي تكتسي قوة مطلقة للشيء المقضي به، ما يستدعي إلزامية خلق آليات التنسيق بين القاضي المالي والقاضي الجنائي.
فمدونة المحاكم المالية خصت العلاقة بين المحاكم المالية الجهوية والمحاكم الزجرية، بفقرة وحيدة، وهي الفقرة الثالثة من المادة 162 من القانون 62.99. وأكدت مقتضياتها أنه: «إذا ثبتت أفعال يظهر أنها قد تستوجب عقوبة جنائية يخبر وكيل الملك بذلك الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، ويتولى هذا الأخير رفع القضية من تلقاء نفسه أو بإيعاز من الرئيس الأول إلى وزير العدل لإجراء المتابعة، كما يخبر بذلك السلطة التي ينتمي إليها المعني بالأمر، ويخبر وزير العدل المجلس بالتدابير التي اتخذها».
كما يتبين أن المحاكم الجهوية للحسابات لا تتوفر على صلاحية الإحالة المباشرة للقضايا والأفعال ذات الطابع الجنائي، على المحاكم العادية.
فإن المهمة الأساسية للقضاء العادي، هي زجر الأفعال المجرمة بمقتضى القانون الجنائي، والتي تمس الأموال العمومية. وهي المهمة نفسها التي يحرص عليها القضاء المالي الجهوي، أي أنه يرمي إلى حماية هذه الأموال من الضياع والإتلاف. وكذا السهر على مراقبتها ثم تدبيرها بشكل يراعي تحقيق المصلحة العامة.
وباستعراض بعض النماذج للمخالفات التي يمكن أن تكون موضوع متابعة أمام الجهازين – أي المحاكم المالية الجهوية والمحاكم العادية- تتضح لنا أوجه التقاطع بين المسؤولية في ميدان التأديب المالي والمسؤولية الجنائية.
ومن زاوية أخرى، إذا كان القانون يلزم القاضي المالي بإخبار القاضي الجنائي بالتجاوزات أو الخروقات التي تتطلب حكما جنائيا، ففي المقابل يظهر غياب مقتضيات قانونية تلزم القاضي الجنائي من جهته بتبليغ القاضي المالي بالخروقات التي تتطلب تدخله. في حين يلاحظ، على مستوى التشريعات المقارنة، أن القانون يجبر القاضي الجنائي بإخبار وتبليغ القاضي المالي بالمتابعات والجزاء.
وإضافة إلى إشكالية التنسيق بين القاضي المالي والقاضي الجنائي، هناك غياب للتنسيق بين القضاء المالي والقضاء الإداري.
فالعلاقة بين القاضي المالي والقاضي الإداري تتميز بالقطيعة، إذ أصبح بالإمكان اعتبار ظاهرة غياب التنسيق سمة أساسية من سمات عمل أجهزة منظومة الافتحاص والرقابة المالية الإدارية القضائية في المغرب. وتبرز هذه الظاهرة من خلال ضعف الإطار القانوني الذي يعمل على إيجاد مجال للتعاون والتكامل وتبادل المعلومات بين مختلف الأجهزة الافتحاصية والرقابية. كما تتميز بتنوع وتعدد مستويات التداخل والتقاطع في ممارسة الاختصاصات والمهام ما بين المحاكم المالية الجهوية والمحاكم، سواء العادية أو الإدارية.
وبخصوص التقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، ورصد عدم فاعليتها في حماية المال العام ومحاربة الفساد، فإن الأمر يقتضي إعادة النظر في بعض المقتضيات القانونية الواردة في مدونة المحاكم المالية، من قبيل المقتضى المتعلق بإحالة الملفات من طرف الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، بمقتضى الفصل 111، والتي تقتضي إعادة النظر فيها سعيا إلى السرعة في تفعيل الإحالات بالنظر إلى حجم الاختلالات والخروقات التي ترصدها هذه التقارير في تدبير المرافق العامة.