ما قبل السيجارة الأخيرة
رفض الكاتب محمد خير الدين الإصغاء إلى نصائح أطباء كانوا يلتقون في تحذيره من عواقب التدخين. وظل على قناعة بأن هموم الآخرين هي ما يقتل. كان يخفي طيبوبته وراء تشنج أو غضب، سرعان ما ينطفئان، إذ يحولهما إلى ألفة يقتحم عبرها عوالم الآخرين، ممن يعرفهم أو يصادفهم في تنقلاته التي لا تزيد عن مربع صغير، من غرفة الفندق إلى المقهى، ومن طوار مزدحم إلى وحدة قاسية.
في أيامه الأخيرة جذبني ذات مساء إلى غرفته في نزل «باليما». كانت تحوي بضعة كتب وأوراق متناثرة وذكريات مريرة. قال إنه سيجرب الكتابة دون ارتشاف السيجارة. فامتنعت الكلمات التي اعتادت أن تتدلى عناقيد على لسانه وصدره عن الخروج في شكل قصيدة. قلت له إن الشاعر المبدع أحمد المجاطي عاند الكلمات بقوله المأثور: «تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة» فنهض من مكانه ليختار كتابة الشعر وقوفا. لكنه مزق كل أوراقه وطلب صديقة على الهاتف، أسمعها كلاما جميلا تخللته عبارات قاسية، وضرب معها موعدا، كان يريد من خلاله عدم الاعتراف بالزمن، وقد أصبح رديفا للمرض.
التقيته بعدها، كان مثل طفل يمرح بأشيائه حين يكسرها، قال إنه قضى يومه الأول من دون تدخين أي سيجارة. ومن أجل إضفاء مسحة على حزنه البادي حكى عن قصته مع «صانع أسنان» في المدينة العتيقة في الرباط. ألم به وجع شديد فمنح رأسه للصانع كي ينزع ضرسا وأكثر بـ «كلاب» على الطريقة التقليدية، لكن الألم لم يغادره وزاد شدة. ثم تلقيت خبر نعيه مثل كل الأصدقاء، فقد غيبه الموت بعد أن اتخذ قرارا حاسما في اليوم ما قبل الأخير، مفاده ألا يعود إلى التدخين أبدا، وقد فارق الحياة وليس في فمه نكهة سيجارة. فقد اتخذ ما اعتبره قرارا نهائيا في الوقت الضائع الذي لا بدل له.
بيد أن المخرج حميد بن الشريف، عاد مرة من باريس يحمل رأسه وقدميه وكثيرا من الأمل. كان أمضى فترة علاج من المرض الخبيث، ولم تغب البسمة عن ظلالها في وجهه وحركات يده ونظراته التي غارت احتماء من أشعة الضوء. رأيته في شارع في الدار البيضاء يمشي في مثل سرعة خطاه حين يلتف على الكاميرا يمينا وشمالا ويقطع مسافات في عين المكان. سخر من نصائح الأطباء، وروى أن رغبة عارمة تملكته في أن يشرب سيجارة أمام الطبيب الذي كان يحذره.
أحس الفنان بأن لحظة ميلاد جديدة دنت نحوه، قال إنه يشعر بقوة غامضة تجذبه إلى الحياة. حرك يده ثم رجله ونظر حوله ليعلن أنه قطع مع المرض. وهات سيجارة لمن يطلبها، وفي نفسه أنها ستكون دائما ما قبل الأخيرة. لكن وطأة المرض لم تتركه ينعم بذاك الإحساس، فقد ارتشف جرعة لم يعد قادرا بعدها على أن يرفع يده إلى متناول شفتيه، وكانت تلك آخر سيجارة.
لتكن إذن، وهذا الشاعر أبو العلاء المعري «يعجب لمن راغب في ازدياد». فثمة شخص آخر يشكو من الظمأ ممددا على سريره الأبيض. من كان يتصور أن «مجنون الورد» محمد شكري يسعه سرير في غرفة مستشفى؟ وقد كان قدومه إلى العاصمة الرباط يقترن باستكشاف كل الأمكنة الحميمية التي كان له فيها ذكرى أو لقطة أو مغامرة.
قال لي في آخر لقاء إنه سعد كثيرا لدى تكريمه في منتدى تلفزيوني في ألمانيا. صادف أنه دعي إليه وهو في الطريق إلى الاحتفاء بذكرى عيد ميلاد لم يكن يتبين مفاصله بين الأيام والفصول.. لم يكن يشكو من شيء. فهذا المجنون الذي تعود على ممارسة الرياضة على سطح شرفة معلقة بين الأرض والسماء في بيته في طنجة، ظل يخفي ألمه مثل الأشجار التي يقترب الفناء إلى أطرافها وهي متعجرفة لا تتحرك.
في رواية أنه من برج سريره الذي بدأ يشعر أنه يطير إلى فوق ولا تشده جاذبية الأرض، أنه طلب إلى الأصدقاء أن يمنحوه متعة تدخين سيجارة واحدة. كان التزم بترك التدخين نهائيا عندما استمع إلى تحذيرات أطباء، قال بعضهم إنه يريد لكتابات محمد شكري أن تتواصل، ويرفض أن يحرقها دخان السجائر. لم يكن الكاتب يريد أن يدخن في الخفاء، فقد كان يعتبر أحسن الملذات تمارس علنا بلا رقابة. غير أن طلبه ووجه بالرفض حرصا على صحته التي كانت قد انهارت، ولم يبق منها سوى شهوة أخذ نفس أخير من سيجارة ملعونة لم يكتب لها أن تلامس شفتيه. فقد أسلم الروح وفي نفسه شيء من نكهتها وتموجات دخانها.
من المبدعين إلى عالم الصحافة، كان الراحل عبد المجيد الإسماعيلي من جيل الصحفيين المخضرمين الذي جمع بين أكثر من مدرسة. ولعله كان أصغر رئيس تحرير لصحيفتي «لومتان» و«ماروك سوار». وكما عرف بنهم القراءة والكتابة ارتبطت صورته بشراهة في التدخين. وقد جرب يوما الإقلاع عنه، فأصبح يصاب بالدوار كلما دلف إلى مكتبه زميل علقت بثيابه رائحة الدخان.
بدا في أيامه التي تنحدر نحو العد العكسي ممزقا بين أكثر من قضية والتزام. ولم يستطع أن يحافظ على توازنه في عبور الطرقات، مع أنه كان دقيقا في احتساب موازين القضايا الشائكة. ومثل أي مستغيث بأصحاب البدلات البيضاء والزرقاء، ترددت النصيحة إياها في صدى غرفة المستشفى: إياك والعودة إلى التدخين.
لماذا تبدو السجائر بعيدة إلى هذا الحد، مع أنها كانت في متناول اليد والجيب والضوضاء؟ وافق مكرها ثم تسلل خفية من السرير الذي كان أحاط به ما تبقى من الأهل والأصدقاء، ثم عاد منشرحا فقد ارتوى من «نبع» وتبغ سيجارة لم يرها أحد، وكانت تلك آخر مرة يترجل فيها من سريره.. أليس حكيما ذاك القائل إن الإنسان يبدأ مشيته على أربع، ثم حين يشتد عوده يمشي على اثنين ثم ثلاث، إلى أن يحمل على الأكتاف، فتكون السيجارة خامسة المشي الذي لا يعود ممكنا أبدا.