ما خفي وراء قضية التجسس الملفقة
جمال أكاديري
إن إثارة قضية برنامج التجسس بيغاسوس، وعودته إعلاميا إلى الواجهة، مع فرضية استخدامه من طرف بعض الدول (الذي يبقى حتى الآن مشكوكا في تورطها الفعلي) من وجهة نظرنا طبعا، فإنها تحجب من ورائها منافسة شرسة بين الدول الغربية الكبرى (التي تريد احتكار إنتاج هذه الوسائل السيبرانية الرقمية الفتاكة)، أكثر مما تخدم حرمة القضايا الحقوقية، لتحصينها من المشتبه في أنهم ينتهكونها .
فعملاء المخابرات الغربية، الاحترافيون الذين يتقنون مهنيا فك شيفرات شبكات التنصت الرقمي على المكالمات الهاتفية المعقدة، ربما يتابعون بتهكم، وفي سرية هذه الضجة الإعلامية الملفقة، التي تريد توريط دول ناشئة، في قضية تجسس محتملة، لم يتم الإجماع على حدوثها، في حين أن هذه الأخيرة (دول العالم الثالث الموجهة إليها التهمة) ما زالت بكل إمكانياتها المحدودة، تتخبط في طريقها نحو التقدم التقني، لتأمين فضائها السيبراني الخاص وتحصيل السيادة الرقمية.
فإذن دول من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كالمغرب، بناء على افتراض موهوم، أنها تجسست على قائمة طويلة من أرقام هواتف، سيتبين للكثيرين (من بينهم المعنيون بها، والمذكورة أسماؤهم من شخصيات نافذة) أنها مقحمة عشوائيا من طرف هيئة حقوقية عالمية، تسرعت كثيرا في استنتاجاتها، بشكل لا مهني، جارة ومورطة معها مؤسسات إعلامية غربية ذات مصداقية ومحترمة دوليا؛ والتي ستتحول إلى ضحية الثقة الزائدة في تحاليل مختبرات مغمورة، لم تجزم تقاريرها، بأي شيء ملموس أو معلل بدلائل تشمل كل الأسماء المدرجة، بل تم التشطيب على أسماء في أوج بداية السجال لتفادي الحرج!
للأسف ما يريب في حملة هذا التحقيق غير الدقيق، والذي يهدف إلى تحريك مياه الإثارة الإعلامية الآسنة، أنه ينم عن تلاعب ممزوج بسوء القصد، محاولا تقمص حرفية من هم أكثر احترافية، وخبرة بعالم التجسس الجيوستراتيجي، الذي ما زال راهنا خباياه، كما يعلم الكل، حكرا على القوى الغربية الكبرى والشركات الموالية لها .
برمجيات التجسس مثل بيغاسوس الإسرائيلي ليست الوحيدة المتاحة في الأسواق التجارية العالمية، بل عشرات غيرها موجودة في هذه الأسواق، المسيطر عليها بشكل أو بآخر، من قبل هذه الدول الغربية نفسها، فكلها ستستفيد عكسيا، من هذه الضجة المثارة، لضمان عرض تكنولوجي عالمي يخدم أيضا مصالحها الاقتصادية السيادية.
هذا يعني أن الصناعة في خدمة التجسس السيبراني، عرفت ظهور مشغلين تكنولوجيين متطورين، أغلبهم حصل على كفاءته من مكاتب أجهزة المخابرات، يسوقون لأدوات تكنولوجية عالية الدقة، في اعتراض المعلومات والتقاطها كيفما كانت طبيعة بثها، داخل ظرفية صعبة، تصاعدت فيها التحديات الأمنية، أولها تكاثر بؤر الإرهاب العالمي، مع عودة النزاعات والتوترات والتنافس بين الدول الكبرى وبين تكتلاتها الصناعية القارية.
فحكومات الدول القوية، تفعل ما تريد وما يخدم مصالحها أولا، من خلال تأمين شبكات اتصالاتها (تعميم التشفير الإجباري، وخلق سلاسل الأرقام الافتراضية، وما إلى ذلك مما سيعزز أمنها الرقمي)، وقبل كل شيء من خلال حماية المخترعين المؤهلين لهذا النوع من الصناعة التكنولوجية السيبرانية، الذين سيكونون ضامنين للسيادة الرقمية، داخل حدودها حاليا وعلى المدى البعيد.
علاوة على ذلك، كل عضو من فئة هذه الدول الغربية القوية، تتنافس بشدة وأحيانا في سرية، من أجل تجنب إضعاف هذه السيادة، ولكي لا تجد نفسها في حالة تبعية تكنولوجية للآخرين، متصرفة كما ينبغي، حتى لا تترك الفرصة للمشغلين الأجانب للانقضاض على شركاتها المحلية، المشتغلة في مجال الدفاع السيبراني، والتي ربما ستضعفها الإجراءات القانونية الداخلية، وتكبل اندافعها الصناعي، لحساسية هذا الميدان، وتصادم نوعية وظائف تطبيقاته مع محظورات قانونية، طالما كافحت لتحمي البيانات الخاصة والحياة الشخصية من القرصنة .
الأكيد أن التكنولوجيا المعلوماتية، قد أحدثت ثورة في عديد من القطاعات، وبدورها الاستخبارات العالمية في شقها السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، لم تعد تحصر تنفيذ خدماتها الفعالة بالطرق الكلاسيكية، مع وجود أدوات المراقبة عالية التقنية، التي أتاحتها الثورة الرقمية، والتي سهلت التجسس على نطاق واسع.
وهكذا من خلال مراجعة شاملة، للأساليب الكلاسيكية المعتمدة سلفا، والتي تعتمد فعاليتها بشكل أساسي على الذكاء والخبرة البشرية، ثم التحول والاستفادة من نجاعة الذكاء الإلكتروني الرقمي لسيولته وشموليته.
فكان من الضروري، التحضير والاستعداد، لأن التهديد الإلكتروني الإرهابي وهجمات القرصنة، يمكن أن يحصلا في أي وقت، هادفين تدمير أنظمة المعلومات أو الاستحواذ عليها.
فإذن بلا شك الصراعات المستقبلية ستكون رقمية، ولهذا السبب جميع الدول الغربية تعمل سرا وعلنا، على تعزيز القدرات الدفاعية لفضائها السيبراني وقدراته التجسسية المضادة.
وهذا ما يدفعها إلى محاولة احتكار الوصول إلى المراقبة السيبرانية الجيوستراتيجية، التي يجب أن تبقى تحت رعايتها، ومجالا محجوزا أو امتيازا تكنولوجيا لنادي الكبار، واعتبار دول العالم الثالث قاصرة عن حماية أمنها الرقمي، وليست لها الأهلية الحقوقية الكافية لخوض المضمار!