شوف تشوف

الرأي

ما بقي أمام بوتين

أبدت أمريكا، على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، بعض التحفظ مع بداية التفوق الأوكراني في جهة الشرق وتراجع القوات الروسية، لكن التقهقر الروسي استمر حتى صار التحفظ الأمريكي عديم الأهمية. وقد بدت آثار هذا التراجع على الجبهة الداخلية الروسية، وعلى ردات فعل بوتين في إعلانه تعبئة جزئية، أظهرت مزيدا من التفكك الداخلي في الجبهة الروسية. وقد أبدى قسم من الشعب الروسي تهربا من هذه التعبئة، وأجبر النقص العددي بوتين على اعتماد الصواريخ بعيدة المدى والمسيرات الانتحارية التي تزودت روسيا بها من حليفتها إيران، على ما يقول الغرب. وهذا النوع من الأسلحة يُحدِث دمارا كبيرا ومآسي إنسانية مؤلمة، وهي توجه، بشكل خاص ودقيق، إلى البنى التحتية ومجمعات توليد الطاقة الكهربائية والمواقع الصحية، ولكن الضربات هذه قد لا تكون ذات جدوى استراتيجية، فهي لا تغير من مجريات المعركة المستمرة في الشرق، والتي يتراجع فيها الروس مع تناقص في مخزونهم من الصواريخ الدقيقة، كما أن استقدام مزيد من المجندين وزجهم بسرعة في ساحات المعارك لن يحسم بدوره الحرب، فهؤلاء لا يمتلكون خبرات عسكرية كافية تؤهلهم لخوض معارك ناجحة، وزجهم بعد دورات سريعة يرفع الكلف البشرية الروسية، وهذا يصدع أكثر الجبهة التي يتكئ بوتين عليها في الداخل.

دأب بوتين، خلال مجريات هذه الحرب التي أكملت ثمانية أشهر، على تغيير أهدافه. وكان الصمود الأوكراني من أسباب ذلك، فبعد محاولته اختطاف العاصمة كييف، والسيطرة عليها لتحويل نظامها إلى نظام عميل (أو تابع لروسيا)، تراجع بوتين إلى التركيز على الشرق والجنوب. ومع صعوبات التقدم في الجنوب للإحاطة بالشواطئ الأوكرانية على البحر الأسود، ركز جهوده للسيطرة على الدونباس بشكل كامل، وإعلان ضمها عبر انتخابات شكلية. في هذه اللحظة، جاء الهجوم المعاكس الأوكراني، الذي أظهر هشاشة الجبهة الروسية العسكرية، بعد أن خسرت مواقعها بسهولة، وسقط عدد كبير من القتلى في صفوفها، فغير بوتين نهجه العسكري مرة ثانية، ووقف لالتقاط الأنفاس. رافق ذلك تهديد نووي وإعلان تعبئة جزئية. أرعب إعلان التعبئة الروسَ أنفسهم، وخصوصا فئة الشباب الذين تستهدفهم الحملة، وحتى يبقي بوتين جو المعركة حاميا، أدخل إيران في المعركة عبر استيراد المسيرات الطائرة المفخخة، وتركها تنفجر بكثافة فوق المنشآت الحيوية الأوكرانية، مع دعم صاروخي مركز. 

لم يدخل الموسم البارد بعد، فما زالت الجبهات دافئة، وتسمح بالتحرك من دون الخوف من التجمد أو الغرق في الوحل، ولدى القوات الأوكرانية العزيمة والحماس، بعد انتصارات سريعة وشديدة الوضوح، حققتها في الشرق والجنوب. والأهم من الروح المعنوية المرتفعة لدى مقاتليها، هو الرشاقة العسكرية الكافية لتتحرك بيسر أكبر على أراضيها وتلاحق الجيش الروسي الذي يتراجع باطراد.

يبدو التفوق العسكري الميداني مضمونا لأوكرانيا، طالما بقي الدعم العسكري النوعي الغربي في المستوى ذاته، وهو في الحقيقة مرشح للتزايد. وهذا الدعم من أسرار الرشاقة العسكرية للمقاتلين الأوكرانيين، لكن أوكرانيا قد تضطر لاحقا إلى خفض سرعة تقدم قواتها، مع بدء ظهور المجندين الجدد الروس بكثافة، أو مع انخفاض درجات الحرارة، من دون أن يعني ذلك أن الروس سيعكسون التقدم لصالحهم، بل سيكونون مشغولين أكثر بتعزيز المواقع التي يحتلونها. وبدوره، سيهتم الجيش الأوكراني بتأمين الجغرافية التي استعادها لضمان عدم سقوطها ثانية.

فاطمة ياسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى