ما أشبه اليوم بالبارحة في الجزائر
توفيق رباحي
رحلة قائد أركان الجيش الجزائري في البحث عن رئيس للبلاد في 2019، تشبه رحلة زمرة من الجنرالات في بحثهم عن رئيس سنة 1994 ثم 1999. المجموعة الأولى اهتدت، بعد جهد شاق، إلى بوتفليقة بسبب مأزقها والخيارات الضيقة أمامها. والفريق أحمد قايد صالح لجأ إلى عبد المجيد تبّون، بسبب مأزقه وقلة الخيارات أمامه. كان الجنرال المتقاعد اليمين زروال هو البديل في 1994، بعد فشل محاولات إغراء وزير الخارجية المطرود ـ قبل 15 عاما ـ عبد العزيز بوتفليقة. وأصبح تبّون هو البديل في 2019، بعد أن نُصِح قايد صالح بأن ورقة علي بن فليس محترقة.
أوجه الشبه كثيرة بين الحالتين، وكأن التاريخ يعيد نفسه. البداية في كون الطرفين يبحثان عن شخص يرأس ولا يحكم. بوتفليقة الذي بُعث من أرشيف غمره الغبار، اختار أن يبقى قريبا من أصحاب القرار منتظرا ظروفا أفضل ليتفاوض من موقع قوة. جاءته الفرصة في 1999 فانقض على الفريسة وعاث فيها فسادا. تبّون وُضع على الرف فترة وجيزة، ولم ينتظر فرصته طويلا مثل بوتفليقة. يشترك الرجلان في معاناتهما من عقدة الشعور بالاضطهاد، وبادعائهما معارضة النظام القائم (بعد أن خدماه عقودا طويلة)، وبأن تلك المعارضة المزعومة كلفتهما العقاب والتهميش.
مزيد من أوجه الشبه: جيء ببوتفليقة إلى الرئاسة على أنقاض حرب أهلية أودت بعشرات الآلاف بين قتيل وجريح ومشرد ولاجئ، وخسائر اقتصادية وسياسية ومعنوية هائلة تكبدتها البلاد بسبب حماقات هؤلاء وأولئك: حفنة من الجنرالات كُتب لهم أن يتحكموا في مصير الجزائر ويقرروا مستقبلها، فقادوها إلى الجحيم. وحفنة من المجانين حوَّلهم جهلهم وتطرفهم الديني إلى إرهابيين ومصاصي دماء.
وسيُؤتى (قريبا تصبح: جيء) بتبّون بعد خراب من نوع آخر تسبب فيه المخلوع بوتفليقة وأسرته وأصدقاؤه، فكان أذاه وكلفته مثل أذى الحرب الأهلية وكلفتها.
في 1999 سُخّرت آلة دعائية هائلة لصالح بوتفليقة صوَّرته الرجل المخلّص. وفي 2019 بدأت تتحرك آلة مشابهة لتلميع صورة تبّون وتسويقه كمخلّص حارب الفساد فدفَّعته العصابة ثمنا باهظا. وإذا كان تبّون قد دفع حقا ثمن قرارات أو مواقف اتخذها، من الصعب اعتباره معارضا للنظام بعد أن خدم في دواليبه أكثر من 40 سنة.
رغم أوجه الشبه الكثيرة بين الحالتين، هناك اختلافات مهمة. أول ما يلفت في سياق الاختلافات أن مهمة شلة جنرالات التسعينيات كانت أسهل من مهمة قايد صالح اليوم. هم فرضوا «رجلهم» بسهولة نسبية، بينما سيضطر «عرَّاب» 2019 إلى التعامل مع عدة معطيات ليست في صالحه ولم تكن موجودة في 1999. أبرز هذه المعطيات أن المجتمع الجزائري كان فعلا بحاجة إلى مخلّص في 1999، وكان سهلا إقناع قطاع واسع منه بأن بوتفليقة هو الرجل الضرورة. أما اليوم فالمجتمع لا يؤمن بالرجل الضرورة، ولا يحتاج إليه، بل يطالب بحقوق وحريات وعدالة ومساواة حرمه منها ذلك الرجل الضرورة طيلة عشرين عاما.
هناك أيضا الوعي الذي رافق انتشار ظاهرة الإعلام الاجتماعي. فحتى لو لم يكن كله وعيا محمودا، إلا أنه يكفي للتشويش على أي مسعى سياسي والطعن في مصداقيته. وما يزيد من خطورة الإعلام الاجتماعي، ذلك العجز الفادح الذي يعاني منه الإعلام التقليدي، والذي يبدو أن قايد صالح يعوّل عليه ويوظفه لخدمة مشروعه الانتخابي وكأن الجزائر تعيش في زمن الحرب الباردة.
بينما كان بوتفليقة داهية وصل إلى الحكم من موقف قوة متسلحا بجنون العظمة ومعبأً بكم هائل من الأحقاد والرغبة في الانتقام، يصل تبّون ضعيفا ومهزوزا غير واثق من نفسه. بوتفليقة رفض أن يكون موظفا لدى الجنرال مدين ورفاقه، وليس هناك ما يوحي أن تبّون سيجرؤ على رفض العمل تحت مظلة قايد صالح. فالسائد عن تبّون أنه نسخة من أحمد أويحيى في طاعته العمياء وجاهزيته للتنفيذ، مع بعض الفروق في التفاصيل الهامشية.