مالرو.. سبأ الحوثي وزنوبيا بوتين
الاهتمام بالأديب والفيلسوف والوزير الفرنسي أندريه مالرو (1901ـ 1976) لا ينقطع، فرنسياً وعالمياً في الواقع؛ وثمة، على الدوام، مناسبة تحيل إلى شخصيته، متعددة الأبعاد وحمّالة الأوجه بالطبع.
قبل أيام صدر مجلد بعنوان «أندريه مالرو: رجل بلا حدود»، أعاد نشر أعمال مؤتمر واسع عقده مركز الأبحاث السياسية في باريس، وتناول جوانب سياسية وثقافية وآثارية طبعت مسارات حياته. ومؤخراً، أيضاً، صدر بالفرنسية كتاب «الحداثة الجمالية عند أندريه مالرو»، للناقدة البلغارية يوليا كوفاتشيفا؛ وهو أطروحة دكتوراه تناولت الأدب بصفة أساسية. قبلهما، خلال الفترة ذاتها، صدر كتاب «لن يمرّوا!»، بتحرير بيت أيرتون، بالإنكليزية هذه المرّة، تضمن مجموعة كتابات لأدباء وفنانين عالميين شاركوا الشعب الإسباني في القتال ضدّ الجنرال فرانكو، كان مالرو بينهم.
وقبل عقدين، اتخذ الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك واحداً من أبرز قراراته الرئاسية الثقافية، حين قضى بنقل رفات مالرو إلى مبنى الـ«بانتيون»؛ حيث يرقد عشرات من كبار رجالات فرنسا، من أمثال جان جاك روسو، فيكتور هوغو، إميل زولا، وجان جوريس. كان القرار صائباً بالمعنى الأخلاقي والثقافي، إذْ لم يجادل أحد في السجلّ الحافل الذي تركه مالرو في ذاكرة فرنسا المعاصرة؛ خاصة أدواره الحاسمة في تطوير الثقافة وضمان حرية المثقفين، حين أسس وتولى أوّل وزارة ثقافة في عهد الجنرال ديغول.
لكنّ الحديث عن مالرو ليس مسألة فرنسية صرفة، فالرجل كتب الكثير عن ثقافات الآخرين، بل دارت معظم أعماله حول الشرق (الصين والهند الصينية بصفة خاصة)، وهو بالتالي دخل في سياق كوني عالمي. وإذا كان من المؤسف أن تغيب الثقافتان الإسلامية والعربية عن نصوصه (رغم ترحاله في المنطقة، ومعرفته بثقافتها)، فإننا لا نعدم بعض الحالات المتناثرة هنا وهناك، مثل تلك النصوص الفاتنة عن اليمن وملكة سبأ؛ والقرار الشجاع الفريد الذي اتخذه، كوزير ثقافة، حين أمر مدفعية ميناء مرسيليا أن تطلق 21 طلقة احتفاءَ بتمثال الملكة زنوبيا، القادم من سوريا إلى معرض فرنسي.
هنا تجدر الإشارة إلى واقعة مثيرة تماماً، تخصّ علاقة مالرو بالشرق: وفي السابع من مارس 1934، كانت طائرة فرنسية تحلّق شمال الربع الخالي، وشرقاً صوب هضاب اليمن، تحمل راكبين يحملقان في الأرض بشغف ولهفة وانتباه شديد. كان الراكب الأول هو مالرو، والثاني هو الكاتب والضابط والسياسي الفرنسي إدوار كورنيليون ـ مولينييه (1898 ـ 1963)، وكانا في سماء اليمن يمارسان ما عُرف آنذاك باسم «التنقيب الجوّي»، يبحثان عن مدينة سبأ. بعد أيام سوف تتلقى اليومية الفرنسيةL’Intransigeant برقية من جيبوتي، بتوقيع كورنيليون ـ مالرو: «اكتشفنا مدينة سبأ الأسطورية. عشرون برجاً وهيكلاً ما تزال قائمة. على الحافة الشمالية للربع الخالي. التقطنا صوراً خاصة بالصحيفة. مودّتنا».
شحّ المعلومات حول هذه الواقعة، خصوصاً في مدى صدقيتها الأركيولوجية، ظلّ يكتنف معظم الكتابات التي تناولت حياة مالرو، ما خلا استثناءات محدودة (بينها، يهمني أن أشير مجدداً، أطروحة دكتوراه لامعة في السوربون، للمغربي عبد العزيز بنيس). وكان والتر لانغلوا، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة وايومنغ الأمريكية، قد نشر كتاباً بالإنكليزية عنوانه «البحث عن سبأ: مغامرة في جزيرة العرب»، لعلّه المرجع الأوسع عن هذه الحكاية المثيرة. وبصرف النظر عن المعطيات العلمية، كان جوهر الواقعة يمثّل إضافة أخرى عميقة إلى نواس مالرو الدائم بين قطبَيْ التجربة الإنسانية: الفعل والمخيّلة، والواقعي والعجائبي.
وبهذا المعنى، أيضاً، فإن المرء لا يستطيع تجاهل جملة حقائق أخرى حول الرجل، تكاد تناقض على طول الخط الصورة اللامعة الطاهرة التي يبدو عليها في العموم. أوّل هذه الحقائق أن الرجل لم يستطع الخروج من دائرة الاستشراق القاتلة، في معظم أعماله التي تتناول موضوعات آسيوية، وتنطوي على قيام مغامر أوروبي باختراق هذا «الشرق المظلم»، لتنويره، وحمل «عبء الرجل الأبيض»، وتنفيذ «المهمة التمدينية» الشهيرة. وكما هي الحال عند رديارد كبلنغ وجوزيف كونراد ولورانس العرب (الذين أعرب مارلو مراراً عن إعجابه الشديد بهم)، نحن أمام شرق مجرّد من التاريخ الفعلي، خاضع للفانتازيا والتنميطات التقليدية السحرية والجنسية، محتاج أبداً إلى الغازي الأبيض الذي سيتولى أعباء التمدين والتحديث والعقلنة.
وفي «إغواء الغرب»، كما في أعمال أخرى مثل »«الدرب الملكي» و«الوضع البشري» و«الغزاة» و«مذكرات مضادة»، نقرأ شرق ألف ليلة وليلة دون سواه، ونتابع هلوسات أبطال مالرو حول الحريم والأميرات والسحرة والعفاريت والإبل وأكلة لحوم البشر (حتى في أعمق أعماق الغابات الكمبودية العذراء!). وأما الأوروبي فيندر أن يظهر في غير صورة السوبرمان النيتشوي، الذي «يتغنى بالقوّة العارمة وحدها، ولا يهمه أمر المجتمع في شيء»، كما يقول غارين بطل رواية «الغزاة».
ولعلّ مصائر زنوبيا بوتين وسبأ الحوثي، في أيامنا هذه، لا تذكّر بانتهاكات التشدد والتعصب والجاهلية الجديدة والاستبداد، فقط؛ بل تردّ الحاضر إلى ماضٍ غير بعيد، شهد نزعة إنسية غربية متمركزة حول ذات مغامرة وغازية، باحثة عن مآزق أقدارها في جغرافيات الآخرين وتواريخهم.