ماذا تبقى من «إسلام» إخوان الأردن؟
كما سبقت الحال في مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، توجّب على جماعة الإخوان المسلمين في الأردن أن تنحني ـ أو، بالأحرى، تُجبر على الانحناء ـ أمام عواصف الأزمنة المتغيرة، فتفكّ عرى العلاقة التاريخية، القديمة والطيبة والقائمة على تفاهمات صامتة أو معلَنة، مع السلطة. وليس هذا التطور مفاجئاً في الواقع، بل يمكن القول إنه تأخر أيضاً، على نحو ما، لأنّ منطق العلاقة الذي استمر طيلة أكثر من سبعة عقود؛ أخذ يتآكل تدريجياً وعلى أكثر من صعيد، ابتداءً من انقسامات الجماعة ذاتها داخلياً، أو في علاقتها مع المركز المصري الأمّ، وليس انتهاءً بمفاعيل «الربيع العربي» وتذبذبات «حماس» وتحالفات قياداتها مع أنظمة الاستبداد والفساد العربية.
فكيف تُلام السلطة الأردنية إذا اختارت هذه البرهة بالذات لكي تشرع في تفكيك تلك العلاقة، الآن وقد أخذت شعبية الجماعة في الانحسار على مستوى معياري هامّ هو الانتخابات النقابية مثلاً (والإشارة أتت، قوية، من انتخابات المعلمين قبل أسابيع قليلة، حين خسر الإخوان نفوذهم في نقابة هيمنوا عليها في سنة 2014 و2012)؛ وصار البيت الإخواني الواحد متشرذماً بين أربع جماعات على الأقل، ليس لأسباب تتصل بصراعات هرم القيادة فقط، بل في قلب القواعد أولاً، حول مسائل سياسية وعقائدية وأجيالية، تخصّ الداخل الأردني أسوة بالخارج العربي في فلسطين وسوريا ومصر واليمن.
وإذا كانت السلطات الأردنية لم تذهب مذهب مصر والسعودية والإمارات في وصم الجماعة بصفة الإرهاب، وتحريمها على هذا الأساس استطراداً؛ فإنّ الخيار المغربي، أي استيعاب الجماعة وتحييدها عن طريق وضعها أمام تحديات انحسار الشعبية، لا يبدو مطروحاً أيضاً، لسبب بسيط أوّل، قائم في المدى الراهن على الأقلّ، يفيد بأنّ السلطة ليست البتة محتاجة إلى اعتماد خيار مثل هذا. يكفي أن يلجأ أمين العاصمة عمّان، أو حتى رؤساء بلديات الطفيلة والمفرق وإربد والكرك والرمثا… إلى نصوص القانون التي تنظّم عمل الأحزاب؛ لكي يصبح إغلاق هذا المقرّ أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك، إجراء مشروعاً تماماً، بل ومطلوباً أيضاَ من باب احترام القانون!
من جانب آخر، يقول المنطق إن مصير جماعة الإخوان المسلمين في الأردن غير منفصل عن مصائر ذلك الإسلام السياسي الشعبي، أو الشعبوي في أمثلة كثيرة؛ الذي أحسن استغلال موجات التديّن العامّ، وامتطى سخط الشعوب من الأنظمة المستبدة، وسعى إلى توظيف احتجاج الشارع، فاكتسب مقادير متفاوتة من الشعبية، كانت في كلّ حال أكبر مما استطاعت اكتسابه تيارات علمانية يسارية أو ليبرالية زعمت تمثيل آمال الناس ومطامحهم. غير أنّ خلوّ برامج ذلك الإسلام السياسي من المعالجات الملموسة للهموم الشعبية، والوطنية، فضلاً عن تقلّب المواقف السياسية ومهادنة الأنظمة وخيانة العهود والمواثيق، أتاح لـ«إسلام» آخر أن يصعد بقوّة، وأن يجمّد نفوذ جماعات الإخوان المسلمين التقليدية، ثمّ ينتقل من التجميد إلى التجنيد من داخل قواعد الإخوان، قبل أن يشقّ الصفوف ويشرذم التنظيمات. ذاك كان إسلام أسامة بن لادن، والزرقاوي، والبغدادي، والجولاني.
ثمة صراع حول السياسات هنا، بالطبع، وارتطام في العقائد والبرامج، وتناقضات كبرى في الأهداف القريبة والبعيدة؛ ولكن ثمة علم اجتماع أيضاً، وربما أساساً، يفيد بأنّ «إسلام» الجماعة قد فقد الكثير من مدلولاته الاجتماعية، وجاذبيته الإيديولوجية، وقابليته لاستثمار نقمة الجموع. وبذلك فإنّ انقسامات الجماعة ليست مؤشرات على بلوغ التأزم الداخلي ذروة غير مسبوقة، فحسب؛ بل هي علائم على تحوّلات عميقة، وخسارات جسيمة، إذا لم يتجاسر المرء فيرى نذير المحاق!