ماذا بعد بوتفليقة؟
يونس جنوحي
عبد العزيز بوتفليقة رجل من عصر آخر. خبر ذهابه لن يغير أي شيء ببساطة لأن الرجل رحل منذ زمن بعيد وأصبح متجاوزا. وهو الآن يلقى نفس مصير منزل عائلته بمدينة وجدة.
رجل ترعرع في المغرب وتربى في الأجواء الشرقية ويعرف المغاربة جيدا. ولكنه عندما جرب حلاوة الوزارة كان شاهدا على مؤامرات مست الأمن الداخلي للمغرب، لكنه ببساطة لم يحرك ساكنا.
بوتفليقة، ضدا في كل القراءات المتفائلة قبل عشرين سنة، لم يقدم أي شيء لطي ملف الخلاف السياسي مع المغرب. حربنا الباردة تمثلت في سوء الفهم الكبير بين الرباط وقصر المرداية منذ مجيء الهواري بومدين إلى السلطة وتمرس بوتفليقة في وزارة الخارجية.
عندما كان بوتفليقة يقيم لفترة خارج الجزائر، لم يكن يمانع في لقاء مسؤولين مغاربة كلما أتيحت له الفرصة. هناك من يقول إن الرجل تربى مع جيل من الأمنيين الذين شكلوا عصب الأجهزة السرية في الشمال الشرقي، لكن علاقته بهم انتهت بمجرد ما قرر البقاء في الجزائر لبدء مساره السياسي هناك.
كانت ثمة إمكانية أن يكون بوتفليقة سياسيا مغربيا، وربما كنا لنقرأ عن مناوشاته مع إدريس البصري والكتلة وأحزاب الإدارة. لكن القدر السياسي للرجل قاده ليكون في مقدمة الذين حضروا ترتيبات استقلال الجزائر، بل ومن لوبي الكفاح المسلح الذين بقيت علاقتهم برفاق الفقيه البصري وعباس المساعدي. غير أن هذه الصفحة بالذات من مسار بوتفليقة كانت تشكل إحراجا للهواري بومدين لأن بوتفليقة أكبر أثر يجسد الجميل المغربي مع الجزائريين قبل الاستقلال.
لا يتناقش اثنان في كون بوتفليقة منحازا لمواقف بومدين ومن جاء بعده خلال المحادثات التي تمت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني لطي ملف الصحراء وفصل تمويل الجزائريين للانفصاليين. وربما يكون قد ندم على عدم اتخاذ موقف وسط أيام كان بومدين يخوض حربه «المقدسة» ضد المغاربة، وطرد عشرات الآلاف من المغاربة من بلاده وشرد عائلات كانت ولاتزال لا تفرق بين المغرب والجزائر وتعتبر المنطقة كلها بلدا واحدا اعتاد أجدادهم أن يتجولوا داخله بحرية.
ضبط المسؤولون المغاربة جزائريين يتجسسون على المغرب واعترف إدريس البصري، أشهر وزير داخلية في تاريخ المغرب الحديث، بالتجسس على الجزائريين بل شارك في تأزيم العلاقة عندما التقى جزائريين في باريس وبلغهم رسالة نارية لكي ينقلوها إلى قصر المرداية. وهي الواقعة التي جعلت البصري في السنوات الأولى لوصوله إلى الوزارة يفاخر أمام بوستة وأحرضان بأنه كان يضايق الجزائريين.
لكن حكيما صامتا واحدا كان ينقل الرسائل الشفهية للملك الراحل الحسن الثاني إلى الجزائريين، وهو الوزير باحنيني الأصغر.
انتظره بوتفليقة مرة أمام سُلم الطائرة وسلم عليه بحرارة رغم أن العلاقة بين البلدين كانت شديدة البرودة. وتبادلا مزحة قال عنها مرافق بوتفليقة، الذي نقلها بدوره إلى الصحفي الفرنسي الذي ألف مذكرات الجاسوس اللاتيني الملقب بابن آوى، إنها سخيفة. لكن باحنيني ابتسم على كل حال.
رحل كل الذين كانوا يشكلون لبوتفليقة عقدته السياسية. فالرجل كان في موقف لا يحسد عليه في المآزق الدبلوماسية، خصوصا وأن الملك الحسن الثاني مرة أمر بوقف المحادثات معه في المغرب أيام الشرقاوي، وأبلغه موظفو الخارجية بلطف أن عليه المغادرة لأن المحادثات توقفت. السبب أن الملك الحسن الثاني علم بمساع جزائرية لاختراق أمني قاده أمنيون سريون دخلوا إلى المغرب تزامنا مع دخول بوتفليقة.
انتهى الرجل سياسيا، وطوى الجزائريون مرحلته.. ماذا بعد بوتفليقة إذن؟