بقلم: الدكتور خالص جلبي
قبل 2500 سنة، في العام الـ509 قبل الميلاد، كان يرتفع نبات فول «الفافا»، والربيع الأخضر يبتسم.. والطبيعة تزدان بلباس أزهى ثيابها لتحتفل بالعرس الكوني.. وإلى جانب حقل الطبيعة الأخضر، كانت الطبيعة الإنسانية ترسم معالم صورة وحشية بالدم، بريشة من سلاح الفولاذ. مجموعة من الناس المتعصبين، محمرة أحداقهم، علا الزبد أشداقهم والسباب، تطوق على حافة البساط الأخضر رجل طاعن في السن، وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبا، يلتقط أنفاسه، قد ارتسم على ملامح وجهه قدر استقبال الموت. كان باستطاعة العجوز الإفلات من قبضة الرعاع الغاضبين، بالتسلل إلى بطن حقل الفول الأخضر، ولكن المفاجأة أنه بقي متسمرا يستقبل الغاضبين وأسلحتهم المشرعة مع رسل الموت!
أحاطت المجموعة المجرمة بالعجوز الواهن، ولم تشفع له سنواته الثمانون للنجاة من منجل الموت يحصد أجله. تدافعت إليه الأيادي بالأذى، والألسنة بالسوء، والأسلحة بالطعنات تترى، حتى أسلم الرمق الأخير. قتل الرجل بنفس غلطة الشاعر المتنبي؛ فعندما اعترضت طريقه مجموعة من العيارين، فر منهم وأعطاهم ظهره؛ فناداه غلامه: ألست أنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟ قال له: يا غلام ويحك قتلتني وقتلت نفسك؛ فرجع إليهم فكرّ عليهم فقتلوه، وهكذا كانت نهاية الفيلسوف العظيم «فيثاغورس PYTHAGORAS»، فهو كان قد حرم على أتباعه أكل الفول أو الاقتراب من حقله، في سر دفين جره معه إلى القبر، حتى كشف العلم عن معنى هذا السر بعد مرور 2500 عام.
الوثبة الروحية في العصر المحوري
يعتبر الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» فيثاغورس «واحدا من أهم الرجال الذين عاشوا في أي وقت من الأوقات»، واعتبر الحجة المؤرخ «جون أرنولد توينبي» أن الجنس البشري أُتحف بين عامي (600 ـ 480) قبل الميلاد، في فترة زمنية لا تتجاوز 120 سنة بظهور خمس عبقريات إنسانية متميزة، على يد خمسة من عظماء التاريخ، في تعاقب مذهل يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار «زرادشت ـ أشعيا ـ بوذا ـ كونفوشيوس ـ فيثاغوراس».
ظهر في إيران «زرواستر»، أي زرادشت، وظهر في ظلمات الأسر البابلي «أشعيا الثاني» الذي اكتحلت عيناه برؤية الملك العظيم «قورش»، المؤسس الأول للدولة الفارسية، الذي أطلق اليهود من معسكرات الاعتقال في بابل، وذكره التاريخ أنه كان من أعظم الناس خلقا وعدلا، بقدر امتداد مملكته من الهند إلى قفقاسيا والسودان، ولا يستبعد أن يكون هو المعني بـ«ذي القرنين» على ما ذهب إليه العالم الهندي وزير المعارف الأسبق «أبو الكلام آزاد». وكان الثالث «بوذا» الذي سطع من سفوح أعلى قمم العالم «جبال هيمالايا»، فمع البرد والهدوء العجيب وصل المعلم إلى حالة «النيرفانا»، أي ذلك الهدوء الذي لا يعكره حزن أو غضب أو لغو، والسعادة الغامرة التي لا يستلبها تكدير، والدائمة التي لا يقف في طريق تدفقها شيء. وظهر في الصين «كونفوشيوس» بتعاليمه من أصغر وأضعف ولايات الصين؛ ليبني كل الأخلاقيات الصينية اللاحقة، فكما جاءت عظمة خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، كذلك كان كونفوشيوس من الشرائح الاجتماعية التي عانت وتعذبت وبكت كما لم يعان أحد، وكان الخامس العظيم هو فيلسوفنا «فيثاغورس» الذي نتناوله بالحديث الآن.
ومن المحتم أن أحدا منهم لم يجتمع بالآخر، وإن كانت تأثيراتهم الحضارية انعكست كل منها على الأخرى. وبسبب أهمية المعاصرة لهؤلاء الحكماء الخمسة، فقد أطلق الفيلسوف الألماني «كارل ياسبرز» على الفترة التي تنتظم حياتهم «العصر المحوري»، أي العصر الذي تمفصل عليه تاريخ البشرية؛ فقد كان ظهورهم في حقيقة الأمر منعطفا هاما، من حيث أنهم استمروا في التأثير على البشرية إلى يوم الناس هذا، ومن حيث إنهم يستمرون في التأثير في الأحفاد، بالمثل الذي قدموه، حتى ولو أن حكمتهم فقدت قيمتها كوصايا، ولو أن تعاليمهم فقدت أهميتها كقانون إيمان.
جنون التعصب وقتل المفكرين
في عام 399 قبل الميلاد أدانت أثينا الفيلسوف سقراط وأعدمته، بدفعه إلى تجرع سم الشوكران، وفي عام 509 قبل الميلاد سقط الفيلسوف والمصلح الديني، فيثاغورس، قتيلا على يد الرعاع في جنوب إيطاليا. وفي القرن الثاني بعد الميلاد سقطت عالمة الفلك والرياضيات، «هيباتيا HYPATIA»، صريعة بالتهمة نفسها، على يد المتعصبين، ويرتبط استشهادها بتدمير مكتبة الإسكندرية بعد تأسيسها بسبعة قرون، التي جمعت يومها نصف مليون مؤلف في أعظم عمل علمي يجمع كل معارف الجنس البشري يومها.
الفيلسوف «فيثاغورس» عاش تاريخا حافلا مشردا غريبا هائما على وجهه في الآفاق، يلهمنا نحن الذين غادرنا الوطن بكثير من الأفكار، بعد أن كفر بالديكتاتورية في بلده من حكم (بوليكريتس الطاغية POLYCRATES) ولم يرجع إلى وطنه قط؛ فالوطن ليس حيث ولد الإنسان؛ بل حيث يمكن العيش مع حياة الفكر والتعبير، مذكرا بقصة أصحاب الكهف، تلك المجموعة الجريئة من الشباب التي رأت حل المشكلة ليس في قتل الطاغية، بل رفض طاعته والدخول في منظومته الفكرية، واختيار مغادرة الوطن على كل حبه، بحثا عن وطن جديد، لا يعتقل فيه المرء على مدار الساعة وفي ساعة ربما إلى قيام الساعة، أو آخر يطرد منه على اللحظة.
فلسفة رفض الطاعة
فلسفة «رفض الطاعة» وممارسة «العصيان المشروع» وبإصرار إلى درجة الموت في سبيل الفكرة وعدم التراجع عنها، بنفس إصرار عدم كراهية الخصم أو محاولة التفكير في قتله أو إيذائه، هي الوصفة السحرية التي تقدم بها الأنبياء «لا تطعه واسجد واقترب». فبقدر شحنة العصيان السلمي، وبقدر ممارسة رفض الطاعة، بقدر شحنة الروح في السجود، والاقتراب في المسافة من رب السماوات والأرض. هذه الفلسفة تحدث عنها فيلسوف لاحق مات شابا يافعا في منتصف القرن السادس عشر، هو «إيتيان دو لابويسيه» الذي عاصر الفيلسوف «ميشيل مونتيني» عام 1562م في ظروف اضطهاد دينية مرعبة ومذابح مروعة، من نموذج مذبحة «الهوغونوت HUGENOTT» المسيحيين البروتستانت من أتباع كالفن، «المعترضون على الكنيسة» في باريس، عندما أغلقت أبواب باريس، وتم الإجهاز على الآلاف منهم في ذكرى القديس «بارتولوميوس BARTHOLOMAEU»، «وجرت هذه المذبحة في ليلتي 23 و 24 من شهر غشت لعام 1572م، حيث أغلقت أبواب باريس وتم تعليم بيوت الهوغونوت ليلا، ثم مهاجمتهم وذبحهم وعائلاتهم وإلقاء جثثهم في نهر السين. كان ذلك بإيعاز من «كاترين دي مديتشي KATHARINA DE MEDICI»، أم الملك هنري الثاني، وخلدها الروائي ميشال زيفاكو في قصته «باردليان»».
مقالة لابويسيه عن العبودية المختارة
كتب لابويسيه مقالة مزلزلة بعنوان «العبودية المختارة» استفاد فيها من آراء فيثاغورس، والفكر النبوي والإصلاحي الفلسفي عبر التاريخ، ولم ينشر الفيلسوف «مونتيني» مقالته المذكورة وتبرأ منها الجميع، وبقيت في ذمة التاريخ لمدة 263 سنة حتى ظهرت بالصورة الكاملة عام 1835م، ولكنها تحت قاعدة «انفجار السوبونوفا» لم تصل إلى اللغة العربية إلا بعد مرور 150 سنة أخرى، وهي اليوم تترجم ويهتم بها المفكرون ويعتبرونها من أجمل ما كتب في الفكر السياسي الاجتماعي.
اشتهر عن الفيلسوف قوله عن الغربة: «نحن في هذا العالم غرباء والجسم هو مقبرة الروح، ومع ذلك فلا يجوز لأحد منا أن يلتمس الفرار بالانتحار، لأننا ملك الله وحده وهو راعينا، وما لم تشأ لنا إرادته الفرار، فلا حق لنا في تهيئته لأنفسنا بأنفسنا».
أفكار الطاغية من كتاب لابويسيه ألهمت المفكر «إمام عبد الفتاح إمام» أن يكتب في سلسلة «عالم المعرفة» كتابا يتناول هذه الظاهرة عبر التاريخ. نحن ندين بهذا المصطلح «المستبد أو الطاغية TYRANT » (9) للفكر اليوناني، الذي عانى من هذه الظاهرة الاجتماعية الخانقة للروح الإنسانية على شكليه الخارجي والداخلي، في صورة الاجتياح الفارسي والتسلط الداخلي «صقلية كنموذج شهير». وهو ما ألهمني أيضا وضع فكرة «كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد»، لتولد لاحقا على شكل كتاب بالتعاون مع هشام علي حافظ، وجودت سعيد. «راجع قاموس المورد طبعة 1999، ص: 1003 ولفظة تير TYR هي إله الحرب في الميثولوجيا الإسكندنافية».
ظروف ولادة العبقرية اليونانية
الاجتياح الفارسي كان بمثابة الزناد الذي قدح شعلة الفلسفة اليونانية. كان زحف «كزركسيس» الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد بركة على الفكر الإنساني، وكان حريق هيروشيما مشعلا للسلام الإنساني، في تناقض يفسر خروج الخير من رحم الشر، وولادة الحياة من الموت «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي». واليوم يظهر خروج بني إسرائيل مرة جديدة إلى مسرح التاريخ كحدث كوني مثير، يؤكد في شهادة صاعقة معنى تفسخ الجسم العربي.
من التحدي الفارسي ولدت العبقرية اليونانية، ومن رماد هيروشيما بني السلام العالمي الهش، خلقا من بعد خلق، وطبقا عن طبق. ومن اقتحام بوابة الشرق على يد العبرانيين الجدد، لإنشاء مصرف جديد، محمي بمؤسسات البحث العلمي والصواريخ النووية، وكل ثقل التحدي الغربي، في حرب صليبية بدون صليب ورهبان، يسخر التاريخ على طريقته ويفاجئنا بالعجيب غير المتوقع.
ولد من رحم العبقرية اليونانية سلسلة من الفلاسفة قبل سقراط، من نموذج «طاليس THALES» و«زينون ZENON» و«هيراقليطس HERACLITUS» و«فيثاغورس PYTHAGORAS» و«إمبيدوكليس EMPEDOCLES» و«أناكسيماندر ANAXIMANDER»
(10)، الذين حاولوا فهم الوجود ووضع اليد على العلة الأولى. سلسلة الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط حاولوا استنطاق الكون ليبوح بأسراره، وتركوا لنا الفلسفة اليونانية تراثا كبيرا ما زال يؤثر في الفكر الإنساني حتى اليوم.
الحقيقة عند فيلسوف التنوير لسنغ
الحقيقة تشكل دائرة عنيدة مستعصية، مليئة بالتحدي أمام العقل الإنساني، وأفضل طريقة لتطويقها والاقتراب منها ومحاولة وضع اليد على أسرارها، هي من خلال الدوران حولها، وإرسال أشعة الفكر على شكل خطي تماس، ينطلقان من خارج الدائرة، من نقطة على شكل شعاعين يلمسان حافة الدائرة من الخارج، من نقاط لانهائية تدور حول دائرة الحقيقة، أو بكلمة أدق «كرة أو دائرة الحقيقة». يمكن فيها للعقل الإنساني أن يمر في نقاط لانهائية، في حركة تحويمه اللانهائية، مطوقا ضارعا جاثيا على ركبتيه بخشوع مستنطقا رموز الحقيقة. كل ما نستطيع أن نقوله إن الحقيقة نسبية ومرنة ونقترب ونبتعد منها بمسافة، بقدر بذل الجهد ومراجعة آليات النقد الذاتي، والشحن المعرفي، والاتصال بالواقع كمرجع نهائي لها. لم يكن عبثا أن دفعنا القرآن إلى البحث عنها في سطور «الأرض» من خلال «آلية السير».
إن هذا جعل فيلسوف التنوير «لسنغ» من القرن الثامن عشر، يرى أن وضع اليد على الحقيقة النهائية عبث وجهد محال، حتى لو خيل إلينا ذلك. وتفكير من هذا النوع انقلابي وهو الذي وسم عصور التنوير. كل ما نستطيع الحلم به هو المحاولة الدؤوبة للوصول إليها، ومعها الخطأ لزام لنا. كل ما عدا ذلك تعصب وانحباس في مربع الزمن، وغرق في وحل الجهل، وإيقاف حركة التطور الحتمية، ليس هذا فقط، بل وبرمجة الحروب الداخلية واغتصاب الرأي الآخر.