بقلم: خالص جلبي
لم يفهم ساسة العالم بُعد ومدى التطور الجديد للقوة بمن فيهم يومها كلينتون الذي أعلن إيقاف التجارب الأمريكية النووية أو تطويرها، وأوعز في الوقت نفسه إلى المخابر الجديدة، بتطوير تقنيات جديدة لا تعتمد على التفجير وسيلةً لمعرفة فاعلية السلاح النووي، حيث يعتمد التفجير داخل الكمبيوتر وليس في باطن الأرض، من خلال تطوير نظام كمبيوترات متقدم بسرعة وقدرة خزن تفوق ألف مرة الكمبيوترات المعروفة اليوم، وبكلفة إجمالية تصل إلى أربعين مليار دولار تنفق في السنوات المقبلة، للمحافظة على التفوق النووي، وعرف المشروع ببرنامج البحث والانتظار العلمي STOCKPILE STEWARDSHIP AND) MANAGEMENT PROGRAM) ، ويرمز له اختصارا بـ(SSMP)، أو استخدام جرعات مجهرية في التفجير بدون الحاجة إلى تفجير قنابل عيار (المائة كيلو طن). إلا أن الذي حصل في نمو القوة الخرافي أنها لم تعد قوة، كما يفكر الإنسان، على النحو الذي شرحه صاحب كتاب «الحرب العالمية الثالثة الخوف الكبير»، الجنرال فيكتور فيرنر، عندما نتصور إنسانا يدب في المدينة، بطول مائتي متر ووزن عدة مئات من الأطنان، فإنه لن يبقى إنسانا حتى لو حافظ على شكله الإنساني، فامتلك رأسا إنما بقدر غرفة كبيرة، أو أذنا ولكن بمقدار صيوان الفيل وأكبر! أو على النحو الذي شرحه الرئيس الروسي الأسبق غورباتشوف في كتابه «البيريسترويكا»، حيث أشار إلى أن الطاقة النووية التي تحملها غواصة نووية واحدة، هي أشد من كل النيران التي اشتعلت في كامل الحرب العالمية الثانية، فقال: «ولأول مرة في التاريخ أصبحت هناك حاجة حيوية إلى إدراج المعايير والقواعد الأخلاقية – الجمالية الإنسانية العالمية في أساس السياسة الدولية وأنسنة العلاقات الدولية».
ولذا فإن العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة، وأدخل مفهوما فلسفيا جديدا في علاقات البشر والدول، وكان هذا للمرة الأولى بعد المأزق النووي، وانتبه إلى هذا بشكل مبكر نفس الدماغ العلمي المشرف على (مشروع مانهاتن ) في «لوس ألاموس»، الفيزيائي الأمريكي «روبرت أوبنهايمر»، الذي كان خلف التفجير النووي الأول في تاريخ الجنس البشري، في منطقة «آلامو جوردو»، عندما تصور علاقات القوى (كعقربين تحت ناقوس زجاجي واحد، إذا اشتبكا في صراع فإن الموت سيطبق بقبضته عليهما جميعا)، وتحت هذا المفهوم قال الرئيس الأمريكي السابق «أيزنهاور» عام 1956 م في إحدى رسائله: «يجب على الطرفين المهتمين بالحرب أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات، وهما مقتنعان بأن عصر التسلح قد ولى، وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة، أو اختيار الموت». وهذا الكلام أدركه بشكل جيد يومها خروتشوف، الزعيم السوفياتي، عندما قال في النمسا في يوليوز عام 1960: «نحن سكان هذا الكوكب نشبه من بعض النواحي سكان فلك نوح .. فإذا لم نستطع أن نعيش على هذه الأرض كما استطاعت الكائنات الحية على فلك نوح، وإذا نحن بدأنا حربا لتسوية المنازعات بين الدول، ومنها ما يبغض الرأسمالية ومنها ما يبغض الشيوعية، دمرنا فلك نوح الذي عليه نعيش وهو الأرض». وقريبا من هذا الكلام كرره غورباتشوف، بعد ذلك بثلاثين سنة، في كتابه «البيريسترويكا»:«استحالة حل التناقضات الدولية حلا عسكريا نوويا تنتج ديالكتيكا جديدا للقوة والأمن، إذ لا يمكن ضمان الأمن بالوسائل العسكرية، لا باستخدام السلاح ولا بالتهويل المستمر لـ(السيف والترس)، كما أن المحاولات الجديدة التي تبذل لتحقيق التفوق العسكري تبدو مضحكة وساذجة». ليخلص في النهاية إلى أن «الحرب النووية لا يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف أخرى، وتكسب هذه الخلاصة في الحقيقة طابعا ثوريا، كونها تعني قطعا نهائيا مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلم، فالوظيفة السياسية للحرب كان دائما تبريرها ومغزاها أو جوهرها (عقلاني)، أما الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية، ففي النزاع النووي العالمي لن يكون هناك رابحون وخاسرون، لأن الحضارة العالمية سوف تفنى فيه حتما. إن النزاع النووي ليس حربا بالمفهوم التقليدي، بل هو انتحار». وكان هذا الانعطاف وهذا (الفهم) هو بعد المواجهة النووية في أزمة كوبا بوجه خاص، حيث تم توقيع أول اتفاقية نووية حول منع التجارب النووية في الغلاف الخارجي أو الجو الأرضي أو المياه .
نافذة:
العصر النووي في الواقع طوَّح بكل القيم السياسية والعسكرية السابقة وأدخل مفهوما فلسفيا جديدا في علاقات البشر والدول