طنجة: محمد أبطاش
تحوي عاصمة الشمال، طنجة، كنوزا سياحية ثمينة، من شأنها إعادة دفع عجلة الاقتصاد الوطني، غير أن عجز السلطات المحلية والمصالح المختصة ثقافيا وسياحيا، على غرار بقية المجالس الجماعية المتعاقبة، عن «تحرير» مآثر تاريخية من النسيان والإهمال الذي يطولها، يجعل المئات من السياح الذين يقصدون طنجة يغيرون الوجهة نحو خارج المدينة. فتلك المعالم التاريخية التي لا تزال تتصدر كبريات الصحف الإسبانية، والتي يفوح منها عبق التاريخ، تعرف إهمالا لتظل تقاوم شامخة وتذكر الجميع بذاك الزمن الذي اختلط فيه الحب بالفن والسياسة.
«بلاصا طورو».. صراع الإهمال
من ضمن أكثر المعالم إثارة للدهشة بمدينة طنجة، ساحة الثيران قديما أو ما يسمى عند الإسبانيين «بلاصا طورو»، هذه البناية التي تقول بعض المصادر التاريخية إن إنشائها يعود إلى سنة 1950 على بعد ست سنوات عن استقلال البلاد، إذ تعتبر البناية الضخمة التي لم يعد يذكر منها سوى الاسم، وذلك كلما أراد الزائر أن ينتقل إلى حي من بين أحياء طنجة، بعد أن تتعالى أصوات داخل محطات سيارات الأجرة المدينة، «بلاصة وحدة.. لبلاصا طورو»، فيتوهم كثير من زوار هذه المدينة أن الكل يشد الرحال نحو هذه المعلمة الضخمة، ليكتشف أن الأمر ليس سوى مكان تتوقف فيه سيارات الأجرة لتعلن عن إقلاع في اتجاه بقية الوجهات بالمدينة.
بعض المصادر المذكورة تشير إلى أن الساحة شهدت منذ افتتاحها، حضور أشهر مصارعي الثيران بعدد من القارات، والتي كانت تتسع ساعتها لأزيد من 10 آلاف متفرج، كما اعتبرت على شكل «مغناطيس» للفرجة داخل المملكة إبان وجود المستعمر الفرنسي والإسباني لكونها تجذب المئات من الجنود الإسبان وكذا أعضاء البعثات الاستعمارية، والذين يشدون الرحال إلى «بلاصا طورو» بطنجة، لرؤية مصارع ثيران جديد من أمريكا اللاتينية وإسبانيا نفسها. هذه المصادر غير المتطابقة تؤكد أنه في سنة 1970 كان الزوار على آخر موعد مع عروض مصارعة الثيران، لتقفل الساحة أبوابها بعد ذلك إلى اليوم، وكل ما تبقى منها سياج مندثر بدوره يحيط بها، وأبواب مقفلة في وجه السياح على وجه الخصوص، ليبقى قلبها مقاوما لصراع من نوع آخر مع النسيان والإهمال هذه المرة.
ومنذ ذلك التاريخ وإلى غاية سنة 2009، أعلن بشكل حماسي داخل إحدى دورات المجلس الجماعي عن فكرة تبني مشروع لإصلاح وتأهيل ساحة الثيران «بلاصا طورو» قصد إنقاذها مما أضحت عليه اليوم، إلا أن الفكرة لم تتجاوز دائرة المجلس لتبقى في رفوف النسيان.
«سيرفانتيس».. المسرح المتآكل
خلال الأسبوعين الماضيين، استحضر عدد من الإعلاميين الإسبانيين ذاكرة أقوى ما شيده الإسبان بمدينة طنجة، ويتعلق الأمر بمسرح «سيرفانتيس»، وهو معلمة تاريخية أخرى تنضاف إلى أرشيف النسيان، نتيجة ما غدت عليه اليوم من الداخل والخارج، وخلال الندوة نفسها التي أطرها هؤلاء الإعلاميون استعرضوا في شريط تاريخي تم إعداده بشكل دقيق تأريخا لهذه المرحلة، «سيرفانتيس» بين الأمس واليوم، غير أن المثير هو أن صورا تم عرضها ضمن الشريط لا تتوفر عليها حتى وزارة الثقافة التي تعتبر الوصي الرئيسي على هذه المعالم التاريخية.
وبالعودة إلى بعض المصادر التاريخية، فإن مبنى «سيرفانتيس» بني بالتحديد سنة 1911 على يد «ديغو خيمينيت» أشهر المهندسين في تلك الحقبة، كما اعتبر هدية قدمت من طرف أحد الإسبان المقيمين بالمدينة يدعى «مانويل بينيا»، إلى زوجته «دونيا اسبيرانسا»، تيمنا بحبها، كما يسمى أيضا مسرح «سرفانتيس الكبير». وفي سنة 1913 عرف انطلاق العروض المسرحية، كما عاش عصره الذهبي في فترة خمسينيات القرن العشرين، لما وصل تعداد الجالية الإسبانية حينها إلى ثلاثين ألف شخص، وظل لمدة طويلة أكبر مسارح شمال إفريقيا وأشهرها. فيما يتسع- حسب المصادر ذاتها- لنحو 1400 متفرج، وجذب فنانين كبارا في تلك الحقبة التي كانت فيها مدينة طنجة تحت الإدارة الدولية. هذا ومن بين المشاهير الذين وقفوا على خشبة مسرح «سيرفانتس»، المغني أنطونيو كاروزو، والمغنية باتي أدلين، إضافة إلى فرق موسيقى «الفلامينغو» الإسبانية الشهيرة بداية القرن الماضي. ومن الأسرار التي يحويها هذا المسرح كونه مجهزا بتقنية تسمح له بتحريك مقاعده للتحول إلى شكل دائري فاسحة المجال لتقديم عروض راقصة، حيث تعتبرها هذه المصادر من الأسرار التي لم تتم إماطة اللثام عنها، باعتبار البناية حاليا مغلقة بشكل دائم، ولا يسمح حتى للزائر بإلقاء نظرة داخلية لاستعادة تلك الذاكرة الجماعية حين اختلط الفن بالسياسة، وذلك لما شهدت البناية نفسها تنظيم لقاءات مناهضة للجنرال الإسباني المثير للجدل «فرانكو». في وقت أشارت بعض المصادر إلى أنه كان يتم التبرع ببعض مداخيل المسرح لجبهة التحرير الجزائرية أثناء حرب الجزائر. واحتضنت هذه البناية الآيلة للزوال بفعل تآكل جوانبها اليوم، عروض كبار المسرحيين والفنانين العالميين. ومن الصدف الغريبة أن هذه البناية لا تفصلها عن مرفأ طنجة القديم، سوى بعض الأمتار، حيث الأشغال على قدم وساق لتحويله على ميناء ترفيهي لجذب السياح، في وقت يقاوم «سيرفانتيس» عوامل الزمن في ظل الإهمال.
ورغم التداخل القائم في كون الدولة الإسبانية هي مالكة المسرح، فإن ذلك لا يبرر ما أصبح عليه اليوم، وهو ما جعل النشطاء الإسبان يفكرون بالتدخل لدى الحكومة الإسبانية قصد تنبيهها إلى ضرورة إعادة بريق الأمل إلى «سيرفانتيس» عبر تخصيص ميزانية لهذا الأمر، خصوصا وأن مادة السيراميك الأصفر والأزرق التي تزين واجهة هذا المسرح، لا تزال شاهدة على أطلال المكان، فيما فقدت الرسوم والنقوش على السطح ملامحها، في وقت يغطي الغبار هذا القلب النابض.