ليلة شتاء دافئة
حسن البصري
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي بعد أن مسح لقب «بوزامبو» ما هو مدون في دفتر الحالة المدينة إذا بقي له دفتر. هو واحد من أشهر متسكعي حي سيدي عثمان قبل أن ينتقل، على سبيل الإعارة، إلى وسط المدينة ويلتحق بالبناية المهملة لفندق لنكولن التي قضى فيها سنوات من عمره ليغادرها بقرار من مجلس المدينة هو وسكان هذه المعلمة المشردون.
كلما سقطت أشلاء فندق لنكولن إلا وشعر الرجل بالألم يعتصر قلبه، يقول بنبرته الساخرة، «أنا والطرامواي أكبر المتضررين من تساقط الفندق»، قبل أن يغير وجهته نحو ملاذ آخر.
كلما التقيته وسط صخب ساحة فرنسا، أجده غارقا في تأملاته يتأمل الوجوه الراكضة وهو ينفث دخان سيجارته الرخيصة في الهواء، دون أن يعبأ بالأصوات المنبعثة من سيارات الشرطة، تغيرت ملامح الرجل الذي غادر الفندق مكرها وظل يتدبر مبيته في مداخل بنايات مهملة.
ولأن «بوزامبو» متابع جيد لمباريات كرة القدم، ويعرف أسماء اللاعبين والمحللين الرياضيين، رغم أنه يسترق النظر خلسة في شاشة تلفاز بمقهى الحي، فقد سألته عن سر توقيف المنافسات وإغلاق المقاهي والحانات. كان الرجل يحتاج لبعض الوقت كي يتعرف على ملامح محاوره. اختصرت مسافات الحوار وسألته عن أقرب الناس إلى قلبه «أحمد الحوات» الذي كان راعيه الرسمي والضامن لوجباته.
أطلق زفيرا من الأعماق وقال: «كان صديق المساكين»، وحين اطمأن إلي دفعته نحو معشوقته الكرة وحاولت استدراجه للحديث عن الشلل الذي ضرب ملاعبها وأوقف صخبها، فقاطعني وهو يتخلص من أعقاب سيجارة عانت من الاختناق بين أنامله:
“ما بقات كرة كلشي طلع من لورجو بقينا غير حنا»، كان يقصد بلغة أهل الكرة، أنه يعيش اليوم في حالة تسلل بعد أن تحالف ضده البرد والوباء، ثم أضاف: «كون غير خلاونا نباتو في لنكولن ما صاوبوه ما هدموه».
الحديث مع متسكع، أو بتعبير علمي، شخص في «وضعية الشارع» يحتاج للغة حوار أخرى، وإلى نباهة وحس تواصلي إنساني، لذا يفضل المشردون الصمت أو يمارسون لعبة الحديث مع الذات في مونولوغ يبدأ خافتا وينتهي صاخبا.
قال «بوزامبو» إن بطولتنا معدية أكثر من كورونا، وأن «فيروساتها» أشد فتكا من الوباء، وكلما توقف عن الكلام، ردد لازمته «فهمني وما تعطيني»، قبل أن يواصل قراءته لقرار تعليق المنافسات الرياضية، ويصر على أن أدمغة بعض المسيرين يجب أن تخضع كل يوم للتعقيم.
علمت أن صاحبنا رفض ولوج قاعة رياضية خصصتها الجماعة الحضرية لإيواء المشردين، واضطر للهروب والعودة إلى فضاء الشارع الرحب، ظل يعتقد أن كورونا قامت بما عجزت عنه السلطة، حيث حررت الشارع العام، ومنحته بكل سكونه وعنفوانه هدية للمشردين.
بدا «بوزامبو» مدركا لنظريات علوم التربية، عالما بتفاصيل المقاربات الاجتماعية في تدبيرها لظاهرة قاطني الشوارع، حين تساءل عن الجدوى من الإيواء في قاعات رياضية ومراكز مؤقتة، وحين ينسحب الوباء «يقومون بإجلائك ويرمون أشلاءك خارج القاعة».
وجه محدثي لومه لمبتكري حملة «شتاء دافئ»، التي أطلقتها وزارة التضامن، وتبين أن هذه العبارة تستفزه لأنها موسمية ولا تتعدى منح القاطنين في الشوارع «مانطة» إضافية مصحوبة بعشرات الصور. ارتسمت على ملامحه ابتسامة بلهاء كشفت عن حجم الخراب الذي ضرب ثغره.
يبدو أن ملاعب الكرة قد عركت «بوزامبو»، فقد ظل يسمع عبارة «العقل السليم في الجسم السليم»، فآمن بها، وأصر على أن تكون آخر «شمة» في ملعب تيسيما قبل عقد من الزمن. هو ليس كباقي المشردين الذين يتناسلون ويتوالدون مثل الأنعام، لا شيء يمنعهم من هذه الممارسة وارتكاب «الخطيئة»، فلا وازع ديني ولا أخلاقي ولا فرامل في عالم التشرد.
لكل مدينة حصتها من المشردين، ولكل فئة عميد يضبط خارطة التشرد، فلا تشهروا في وجهه بطاقة حمراء.