ليس شبلا من فصيلة الأسود
لم يتردد الملحق العسكري في السفارة السورية في مدريد، في إبداء استعداده لتزويد معارضين مغاربة بالسلاح. وذهبت تقارير إلى حد القول إنه خاطب بعضهم، مشيرا إلى اقتناء أسلحة من السوق السوداء، ووضعها رهن إشارة تنظيم سري مغربي يعمل لإطاحة النظام، ويحظى بدعم بلاده.
تعود وقائع الحدث إلى أزيد من أربعة عقود خلت. كانت دمشق فتحت أبوابها لإقامة معسكرات تدريب لفائدة طلاب ونشطاء مغاربة، لعل أشهرها اسمه «الزبداني» الذي لا يبعد كثيرا عن الحدود بين سوريا ولبنان. واقترنت الدراسة في المعاهد السورية وقتذاك، لا بتسلم شهادات الكفاءة العلمية والفكرية فحسب، بل بالقدرة على استخدام الأسلحة وتفكيكها وإجادة الرماية، والإعداد الجسدي والنفسي لتحمل ضغوط التحقيقات التي تبدأ أو تنتهي بأصناف قاسية من وجبات التعذيب غير الرحيم.
مرة كنت في زيارة إلى دمشق، وصادف أن المعارض الفقيه محمد البصري كان هناك. أخبرني وزير الإعلام السوري بانتشاء وفخر أن بلاده تدعم معارضي النظام، وأن خلافاتها مع توجهات السياسة المغربية في التعاطي وأزمة الشرق الأوسط، حتمت عليها هذا الاختيار. أذكر أن الوزير إسكندر خاطبني بلهجة لا تخلو من ازدراء: «أنتم تستقبلون إسرائيليين في الخفاء، ونحن نستضيف معارضي بلادكم علنا». وأضاف في مرحلة لم تكن فيها جهة ما يعرف بـ«التصدي والصمود» التي ضمت سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي، عرفت النور: «لا تستغربوا إن فرشنا السجاد الأحمر أمام بوليساريو، عبر بوابات دمشق».
كان الأمر أشبه بتهديد. ومع أن مهمتي إلى دمشق كانت إعلامية محضة، رأيت خلالها الرئيس حافظ الأسد يخطب في مهرجان أقيم في قاعة مغلقة، وسألت عن أسباب حصر اللقاء مع زعيم عربي في مساحة محددة، فقيل لي إن أعداء النظام موجودون في الداخل، وإن هناك خشية عليه من مؤامرة إسرائيلية. تذكرت حينها ما تردد بعد هزيمة يونيو التي أذلت العرب في صيف العام 1967. فقد انبرت دمشق للتهليل بالنصر. وقال الإعلام السوري أحادي الصوت إن سوريا «انتصرت» لأن الحرب كانت تستهدف إسقاط نظام الحكم في سوريا. ولم ينتبه إلى احتلال أجزاء واسعة من البلاد لازالت إلى اليوم تحت الاحتلال، من محيط القنيطرة إلى الجولان.
لم ينقض غير زمن قليل حتى اندلعت انتفاضة عارمة في «حماه» واجهها الأسد الأب، كما فعل نجله بشار اليوم، بالإفراط في استخدام القمع والقوة والعنف القاتل. وعندما شعر النظام بتطويق دولي التف على عنقه، جاء حافظ الأسد إلى فاس يستنجد بخيار السلام الذي أقرته قمة فاس العربية في شقها الثاني، بعد أن تعذر التئام الطبعة الأولى، على قاعدة «من حضر». فقد كان داهية يقايض المواقف في سوق سرية، لا يظهر منها إلى العلن إلا ما يرضي خطابه الذي دأب على ترويج أن لا حرب ولا سلام في الشرق الأوسط من دون دمشق. وها هي الأحداث تعارض نزعة الأسد الأب، إذ تؤكد أن لا أمن ولا استقرار ولا حل للأزمة السورية، من دون شطب سلالة حكم آل الأسد.
لم تكن دمشق تواجه التيار المعتدل الذي يمثله المغرب فحسب، بل إن خلافات الإخوة الأعداء داخل حزب «البعث» الواحد فرقت بين دمشق وبغداد. والأغرب أن انهيار البعث في العراق ضيق الفجوة بين البلدين الجارين، لأن كلاهما بات مشدودا إلى إملاءات تأتي من طهران. فقد اتسمت قمة فاس بإقرار مصالحات ثنائية، كان أبرزها اللقاء الذي جمع بين حافظ الأسد والرئيس العراقي صدام حسين. وداخل القصر الملكي في فاس تبادل الزعيمان ما يكفي من العتب، لدى استعراض محاولات كل طرف لإطاحة نظام الطرف الآخر بكل الوسائل.
كان المغرب بعيدا عن مفاصل تلك المواجهة المفتوحة، وحين قدم المبعوث المغربي المستشار أحمد بن سودة إلى الرئيس حافظ الأسد دعوة حضور قمة فاس. سأله إن كان تلقى موافقة بحضور غريمه صدام حسين، وكاد يرهن حضوره بشطب اسم حاكم بغداد، لولا أن تقاليد المؤتمرات تسمو فوق خلافات العواصم مع بعضها. روى بن سودة أنه لم يتعبه قائد عربي في جذبه إلى معتركه، كما فعل الأسد الذي كان يلوذ إلى صمت رهيب، بعد أن يطرح سؤالا ويصغي أكثر إلى الأجوبة، وإن لم تكن في صلب استفساراته. قال إنه أقسم أمامه ألا يعود إلى الرباط، من دون أن يزف خبر مشاركة الأسد في قمة فاس، وأشفع كلامه ببعض الشعر والحكم عن أهل الشام، وعن العاصمة دمشق التي كتب عنها الشاعر السوري الكبير نزار قباني يوما:
«هذي دمشق وهذي الكأس والراح
إني أحب.. وبعض الحب ذباح
أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي عناقيد.. وتفاح
لسال منه
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعت في دمي أصوات من راحوا».
في خلاصة الحكاية أن حافظ الأسد أساء تقدير الضيافة، ولم يكن ما أقدم عليه الملحق العسكري لسفارة بلاده في مدريد بعيدا عن خطة دبرها بنفسه. وحين عاد ذات مساء من أيام قمة فاس إلى مقر ضيافته، وجده خاليا من الحرس ومن الإجراءات البروتوكولية، فأدرك أنه لم يعد مرغوبا فيه، جراء ما ارتكبه من أخطاء، امتطى الطائرة وقد مني بخيبة كبيرة، لا يعاد لها في المرارة والنبذ إلا الوضع الذي يجتازه ذاك الذي «ليس شبلا من فصيلة الأسود».