ليبيا.. مقاربة الحكم دون القومي
صبحي حديدي
خلال سنة 2020 المنصرمة بشر البنك الدولي بمقاربة جديدة لحل النزاعات الداخلية، صدرت ضمن تقرير بعنوان «الحكم دون القومي والنزاع»، استفاض في تعداد مزايا هذا الطراز من الحكم الذي يعتمد على قوى الأقاليم في بلد ما؛ بدل الاعتماد على المجموع الوطني، أو الاجتماع القومي على اختلاف عناصره. وليس بعيدا عن الترجيح أن تكون ستيفاني وليامز، المندوبة الأممية إلى ليبيا بالإنابة، قد استهدت بهذه المقاربة في تصميم وتكييف وإدارة ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف؛ على الرغم من أن تقرير البنك الدولي لم يشمل ليبيا كحالة دراسية، إذ اقتصر على كينيا، الفليبين، الصومال، ميانمار، البوسنة والهرسك، اليمن، ومالي.
الأسابيع والأشهر المقبلة، كي لا يتحدث المرء عن أيام قليلة، سوف تضع مقاربة وليامز على المحك العملي؛ ليس لجهة فاعلية انتخاب رئيس وزراء انتقالي ومجلس رئاسي (بأغلبية 39 من أصل 75 مشاركا في الملتقى!)، بل أولا وثانيا وثالثا لجهة تسليم قوى الأمر الواقع، الداخلية والخارجية، بهذه النتائج. لا أحد يصح له أن يتمسك بحسن النوايا، والتطلع إلى الآمال الكبار، فيتجاهل حقيقة اتفاق الصخيرات قبل خمس سنوات ونيف؛ الذي ما زالت انتهاكات مخرجاته ماثلة للعيان في شرق ليبيا وغربها على حد سواء، وفي تجاوز حكومة فايز السراج الأمد الأقصى المحدد لها، مثل صعود المشير الانقلابي خليفة حفتر وإعادة تركيب جيشه من مرتزقة دارفور وتشاد وشركة «فاغنر» الروسية، قبيل الزحف على طرابلس.
ثمة، هنا، محذور أول يحيل إلى إمكانية الارتياح الضمني إلى تقسيم ليبيا طبقا للأقاليم الثلاثة، اتكاء على افتراض خاطئ حول حسن تمثيل برقة وطرابلس وفزان؛ بصرف النظر عن ماضي أبنائها الوظيفي خلال عقود حكم القذافي، أو حاضر ارتباطاتهم السياسية والاقتصادية والاستثمارية مع القوى الخارجية الداخلة في لعبة إدامة الصراع، أو حتى بسبب من إمكانية انقلابهم إلى تسوية الأمر الواقع الوحيدة المتوفرة. وإذ تستشعر غالبية من أهل بلد ما خشية عالية من التقسيم، لاعتبارات مناقضة تماما لمقاربة «الحكم دون القومي»، فإن عددا غير قليل من مدارس حل النزاعات في الفكر السياسي الغربي لا ترى ضررا في الاحتكام إلى التقسيم؛ خاصة حين لا تبصر، إلا بأعين حولاء، تجليات حضور الدولة/ الأمة في منطقة النزاع.
محذور ثان، مقترن بالأول وشبه إلزامي غالبا، هو تكريس القوى الفاعلة الخارجية اعتمادا على تثبيت ممثليها المحليين وإسباغ هذه الدرجة أو تلك من الشرعية على أدوارهم الراهنة؛ فضلا عن اعتمادهم ضمن المعادلة الوطنية مستقبلا، وهو الأخطر والأشد ضررا والأبعد أثرا. المثال الأبرز هو المشير الانقلابي حفتر دون سواه، إذ إن هزيمته العسكرية في حملة الزحف على طرابلس لم تسفر عن هزيمة سياسية جلية في أوراق اقتراع ملتقى جنيف؛ بل يجوز القول إنه كان الشبح الشؤم خلف اندحار قائمة عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، وفتحي باشاغ، وزير داخلية حكومة الوفاق، بالنظر إلى تحالف الأول مع حفتر.
محذور ثالث هو الزمن الطويل الذي يفصل ليبيا الراهنة عن ليبيا دجنبر، حين يتوجب أن ينجز الجهاز التنفيذي المؤقت التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية، حيث سيبدأ اختبار أول، سواء على مستوى برلماني أم شعبي يخص المجتمع المدني، من قبول أو رفض شرعية زعامات انتخبها 75 ليبيا اختارتهم الأمم المتحدة؛ وسيبدأ اختبار ثان من واقع تلاؤم هذه النتائج، أو تنافرها، مع توافقات الضباط الليبيين ضمن مجموعة 5+5 بصدد ترتيبات وقف إطلاق النار على الأرض. ولا يخفى، بالطبع، أن الاختبار الثالث هو القوى الخارجية، وشبكة صراع المصالح، ويقظة العامل النفطي حين تلوح تباشير الوئام.
مخرجات جنيف تبدو خطوة إلى أمام، لكنها للأسف قد تتكشف عن خطوات إلى وراء؛ أي إلى اشتباك سياسي أكثر تعقيدا، وعنف أشد عاقبة.