كثيرون استغربوا طلب وزارة الداخلية الفرنسية من بعض المؤسسات التعليمية إجراء “تقييم لمعدل التغيب الذي سجل بمناسبة عيد الفطر”، والبعض لم يفهم ربط ممارسة دينية مسلمة بمسألة أمنية.
الأمر واضح، الدولة العميقة الفرنسية تقوم بوضع قوائم للعائلات المسلمة الملتزمة بتعاليم الدين. ولن يكون هناك أي تضييق على هذه العائلات بل سيتم تركيز الاهتمام بها أكثر من غيرها وستوضع تحت المراقبة وسيتم التعامل معها بصرامة عندما تضبط أحد أفرادها في مخالفة مع القانون.
عندما سيضع أحد أفراد هذه العائلات المسلمة طلبا للاستفادة من السكن الاجتماعي سيتم التدقيق في طلبه بشكل أكبر من طلبات غيره. وكذلك الشأن مع باقي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وعندما سيضبطون في أقل مخالفة ستنزل يد القضاء الثقيلة وسيحاسبون حسابا عسيرا. أضف إلى ذلك أن أبناءهم سيصبحون ممنوعين من ولوج الوظائف العمومية، خصوصا الجيش والشرطة.
فرنسا تريد إسلامها الخاص الذي فصلته على مقاسها،
ولهذا الغرض أنشأت مؤسسة «إسلام فرنسا» ووضعت على رأسها مسيحيا هو جون بيير شوفينمان، وزير الداخلية السابق، وهذه المؤسسة هي بمثابة الكليرجي، أو الإكليروس، وعينوا فيها الطاهر بنجلون كعضو بمرسوم رئاسي، وكتبت لوفيغارو مبتهجة أن الطاهر لم يعد يصلي صلواته الخمس منذ مدة، مع أنه في الإسلام ليست هناك وساطات بين المسلم وربه، إذ لا رهبانية في الإسلام.
هل هي مصادفة، إذن، أن تتزامن كل هذه النكبات على مسلمي فرنسا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القارة العجوز؟
ليس هناك مكان للصدفة، كل شيء مخطط له بإحكام شديد، فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ له بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.
لكن هذه الحرب، الخفية تارة والمعلنة تارة أخرى، ضد الوجود الإسلامي في فرنسا والغرب عموما، تأخذ أشكالا «ديمقراطية» و«قانونية» حتى لا يظهر العالم الحر والمتقدم عاريا على حقيقته، فتتحطم الصورة المثالية التي يريد تقديمها عن نفسه كمجتمع يعطي الدروس حول الأخلاق والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية لدول العالم الثالث وبلدان العالم «المتوحش».
لذلك، ففرنسا الديمقراطية تتخذ قراراتها من أجل التضييق على المسلمين بطريقة جد ديمقراطية، وذلك عبر الاستفتاء والتصويت وقوانين الهجرة التي يصوت عليها ممثلو الشعب في البرلمان ومجالس الشيوخ.
تعرف فرنسا أنه بحلول عام 2050 سيشكل المسلمون نسبة 20 في المائة من سكان أوربا بعد أن كانوا لا يزيدون على 5 في المائة، أي أن الأسماء التي ستكون أكثر تداولا في أوربا بعد ثلاثين سنة من الآن هي محمد وعائشة وآدم وريان وأيوب ومهدي وأمين وحمزة وفاطمة، وهذا وحده يشكل بالنسبة إلى الفاتيكان، المحرك الحقيقي لسياسات قادة الدول المسيحية، كابوسا مخيفا.
لذلك، بدأت كل الحكومات الأوربية قبل سنوات في التنسيق في ما بينها على الصعيد الأوربي لوقف هذا الزحف الأخضر، فجاءت قوانين فرنسا لحظر ارتداء الحجاب في المدارس قبل سنوات، وتبعها حظر ارتداء البرقع الأفغاني، مع أنه لا علاقة له بالإسلام بل هو زي ابتدعه طالبان، وتبعتها بريطانيا عندما وضعت قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، اتضح أنها كانت موجهة أساسا لتجفيف منابع تمويل الجمعيات الإسلامية الخيرية في بريطانيا، ووصلت هذه الحمى إلى إسبانيا عندما منعت مدارسٌ دخولَ طالبات بالحجاب، ومنع قاض محامية مسلمة تضع الحجاب من دخول قاعة المحكمة، مرورا بكارثة تصويت السويسريين لصالح منع بناء المآذن في المساجد الإسلامية فوق أراضيهم استجابة لدعوة عنصرية أطلقها الحزب اليميني وباركتها الحكومة من وراء الستار بقبولها عرض المسألة للتصويت.
والرسالة التي تريد الحكومة الفرنسية إيصالها إلى مسلميها واضحة بما لا يدع مجالا للشك، وهي أن المكان لم يعد يتسع للجميع، عليكم أن تختاروا، إما أن تندمجوا معنا كليا أو أن ترحلوا إلى بلدانكم حيث تستطيعون القيام بما يحلو لكم.
هذا هو عمق دعوة المفكرين الفرنسيين حول قضية الهوية الوطنية، فإما أن يقبل المسلم في فرنسا بالانسلاخ والتجرد من جذوره الإسلامية العربية أو الإفريقية أو الأمازيغية لكي ينتمي بالكامل إلى العرق الفرنسي والثقافة الفرنسية والهوية الفرنسية مسيحية الأصول، وإما أن يعود إلى حيث توجد جذوره التي يفتخر بها.
إن وضع فرنسا، كدولة قامت على احترام المبادئ الديمقراطية، لا يسمح لها بأن تقوم بإحياء محاكم تفتيش جديدة على الطريقة الكاثوليكية لطرد المسلمين من أراضيها كما وقع في إسبانيا، ولذلك تلجأ إلى استعمال القوانين للضغط وإحراج ومضايقة وإهانة هؤلاء المهاجرين حتى يفهموا أن الأمن والخلاص يكمنان في عودتهم إلى بلدانهم.
إنها، في نهاية المطاف، حلقة جديدة ومعدلة ومنقحة من مسلسل «محاكم التفتيش» التي اعتاد الغرب المسيحي القيام بها كلما أحس بزحف الإسلام والمسلمين على أراضيه.