ياسر عبد العزيز
على مدى عشرين عاما متتالية، لم يتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الفوز بالانتخابات، وهو الفوز الذي مكنه من البقاء قابضا على مفاصل السلطة في بلاده طيلة هذه الفترة، رغم ما اكتنفها أحيانا من مشكلات وأزمات.
وفي فوز أردوغان الأخير بالانتخابات الرئاسية ما يستدعي الفحص والدرس، خاصة أن تركيا تواجه مشكلات حادة وعميقة على صُعُدِ الاقتصاد والسياسة والاتساق الاجتماعي، كما يبدو الوضع الداخلي في حالة انقسام واضحة، عشية ولاية رئاسية جديدة، وصفها بعض النقاد بأنها قد تكون بمنزلة «مستنقع» للرئيس ولحزبه.
يحلو لكثير من نقاد أردوغان الحديث عن «ديكتاتوريته»، وتعلقه العميق بالسلطة، وبذل كافة المحاولات الممكنة للتحايل على القواعد الدستورية والقانونية للبقاء في سدة الحكم، لكن هذا الأمر لا يقدم التفسير الكافي لحصده القدر اللازم من الأصوات في كل انتخابات تنافسية خاضها، رغم توافر قدر مناسب من ضمانات النزاهة الإجرائية والصيغة التنافسية.
وفي محاولة تفسير هذه القدرة التي انطوت عليها الآلة الانتخابية الأردوغانية، سيمكن الركون إلى النظريات الرئيسية الثلاث التي تحكم خيارات الجمهور التصويتية في المجتمعات المختلفة.
أما النظرية الأولى؛ فتختص بالبعد الشعبوي لدى الرئيس التركي، بحيث ظهر مفهوم الشعبوية مبكرا في كتابات أفلاطون وتلميذه أرسطو، باعتبارها إيديولوجية أو فلسفة سياسية، تستخدم خطابا ديماغوجيا، يتوجه إلى الطبقات الأدنى في الشعب، وتعتمد آليات جدل سياسي، يلعب على عواطف الجماهير، ويداعب نزعات الخوف، ويعد بتحقيق النصر والفخر والسعادة، من خلال هجوم حاد على المنافسين، وتحميلهم المسؤولية كاملة عن الصعوبات التي تعاني منها الجماهير المطحونة والأكثر تأزما.
ووفق ما يقوله الباحث المرموق بول لازرفيلد، فإن النظرية التي يستفيد منها القادة الشعبويون تسمى بـ«النموذج الاجتماعي»، حيث تتحكم عوامل اجتماعية في خيارات الجمهور التصويتية؛ مثل الطبقة، والدين، والعرق، واللغة، والوظيفة.
وحينما تكون الأولويات المثارة على المستوى الوطني تتعلق بمخاوف من فقدان العمل، أو تراجع في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، أو تحديات ذات طابع ديني، أو مخاوف ذات طابع عرقي، فإن الجماهير المأزومة تبحث عن مُخلص، يعد بتجاوز تلك العوائق.
هذه النظرية يمكن أن تفسر قدرة القائد الشعبوي على الفوز بالانتخابات، لكنها لا تفسر قدرته على البقاء في الحكم، وتحقيق بعض الإنجازات، ثم العودة للفوز مجددا. وهنا ستظهر النظرية الثانية التي طورها الباحث «كامبل»، وتسمى بـ«الخيار النفسي»، والتي تركز على أهمية الأبعاد النفسية للمصوتين أكثر من الأبعاد الاجتماعية؛ مثل هوية الحزب الذي ينتمي إليه المصوت، والإطار الفكري الذي يحكم خياراته، والتاريخ العائلي للانتماء السياسي له.
وفى هذا الصدد، فإن الجماهير التي ترتبط تاريخيا بحزب يميني عادة ما تذهب إلى مرشح اليمين، بصرف النظر عما إذا كان يقدم لها حلولا لمشكلاتها، أو يظهر قدرات ومهارات سياسية كافية لكي يفوز بثقتها، وهو أمر يفسر إعطاء الكثيرين من أنصار «العثمانية الجديدة» و«المجد الديني» أصواتهم لأردوغان، رغم معرفتهم بما يرشح أحيانا عن عطب الآلة الحاكمة، وظهور حالات فساد فيها.
وبموازاة هاتين النظريتين، ستظهر النظرية الثالثة، وهي نظرية تختص بسلوك الجمهور الأكثر وعيا وتعليما. وتسمى تلك النظرية، التي طورها الباحث أنتوني دونز، بـ«الخيار الرشيد»، وهي تعتبر أن المصوتين جماعة من العقلانيين، الذين يتخذون قراراتهم السياسية استنادا إلى تشخيص موضوعي لحاجاتهم، وأهدافهم، وخصوصا في المجال الاقتصادي.
ولا يهتم أصحاب «الخيار الرشيد» كثيرا بحديث المخاوف، ومداعبة الغرائز، ودغدغة العواطف، ولا يحفلون بالطبقة التي ينتمون إليها، ولا بالحزب الذي صوتوا له في الانتخابات السابقة، ولا بوضعهم العرقي، أو اللغوي، أو الاجتماعي، أو المنطقة التي ينتمون إليها جغرافيا، لكنهم يهتمون بتقييم الأداء على الأرض، وبقدرة القائد أو الحزب المنتخب على تحقيق الإنجاز.
من يدرس حملة أردوغان الانتخابية الأخيرة، وقبلها عديد الحملات التي نظمها هو وحزبه في استحقاقات انتخابات مختلفة، سيجد أنه صنع مزيجا مناسبا لمخاطبة الواقعين تحت تأثير النظريات الثلاث؛ فقد قدم لأنصار الشعبوية ما يحبونه عبر التأكيد على مشاعر القلق والاستهداف والفخر. وقدم لأنصاره التقليديين فرصة الاستمرارية، باعتباره حامي حمى الدين والتقاليد، والقادر على تكريس سلطة حزبه واستدامتها. كما استطاع التأثير في بعض أصحاب «الخيار الرشيد» بسلسلة من الإنجازات المادية، التي تحققت، ويصعب جدا إنكارها، على مدى سنوات حكمه الطويلة.
لهذه الأسباب مجتمعة، يفوز أردوغان عادة في الانتخابات.
نافذة:
في محاولة تفسير هذه القدرة التي انطوت عليها الآلة الانتخابية الأردوغانية سيمكن الركون إلى النظريات الرئيسية الثلاث التي تحكم خيارات الجمهور التصويتية