لهذا نحن متخصصون في الفرص الضائعة
على الرغم من ورود اسم «التربية الدينية» في التوجيهات الملكية، قررت وزارة التربية الوطنية عدم تغيير اسم «التربية الإسلامية»، وذلك بعد ضغوطات قام بها مدرسو ومفتشو هذه المادة الدراسية، فضلا عن عموم المحسوبين على التيارات المحافظة، والذين وجدوا في التوقيت السياسي الانتخابي مناسبة لانتزاع تراجع كهذا، والملاحظة الأولى هي أننا، كأمة فوتنا فرصة أخرى لتطوير النقاش حول أحد أهم مداخل منظومتنا التربوية، وهو مدخل القيم، وبدل أن يتخذ هذا النقاش شكلا علميا وعالما، يحضر فيه البيداغوجي والتاريخي والمنهجي، فإنه تحول للأسف إلى مجرد مناسبة أخرى نجدد فيها ولاءنا للتعصب والهمز واللمز، وعندما نقول النقاش العلمي العالم، فلأن بادئ الرأي لا ينتج معرفة منهجية بل يبقى في حدود الاعتقاد بالمعنى الفلسفي العميق للكلمة. لذلك من الطبيعي، وفقا لهذا المستوى أن تتعالى عبارات الاتهام على خطابات التحليل العلمي.
فالتوجيهات الملكية تنطلق من حقيقة أن التربية الإسلامية مادة دراسية تخضع لمبادئ المدرسة العمومية، بماهي مؤسسة «نتعلم فيها ما يحررنا ويوحدنا»، كما يقول أحد أعظم فلاسفة التربية في العصر الحديث «أوليفيه روبول»، أي نتعلم فيها أن نكون مواطنين يدركون ما يوحدهم مع بشر آخرين يتقاسمون معهم الوطن والعالم، ومن الطبيعي جدا بأن تخضع هذه المادة الدراسية للمراجعة المستمرة، معرفيا ومنهجيا، تماما كما باقي المواد الدراسية الأخرى. لذلك كان بلاغ القصر الملكي واضحا في الحديث عن «مراجعة مناهج وبرامج ومقررات تدريس التربية الدينية»، وهي عبارة مفعمة بالمفاهيم البيداغوجية المتخصصة، تنطلق من حقيقة تربوية وهي أن الدين معرفة مدرسية connaissance scolaire ينبغي أن تكون في خدمة قيم المدرسة المغربية، لكن المؤسف هو أن الجوهر التربوي للتوجيه الملكي لم يتم استيعابه، وتم تحريف هذا النقاش حول مفهوم التربية الدينية عن جوهره، وتم السقوط مرة أخرى في المطب ذاته الذي سقط فيه النقاش حول اللغة الأم.
فكما أن مادة اللغة العربية ليست هي اللغة العربية، بل أساسا معرفة مدرسية، وأستاذها ليس بالضرورة نحويا أو أديبا أو راوية أو بلاغيا وإنما هو فقط ناقل لمعرفة، فإن مادة التربية الإسلامية أيضا ليست هي الإسلام، وأستاذها ليس داعية أو مفتيا أو عالما أو أصوليا، من علم الأصول، بل هو أيضا ناقل لمعرفة دينية، وسيكون عليه، وفقا لمهمته هذه أن ينصب اجتهاده على تعليم التلاميذ القيم الدينية التي تعزز المشترك الإنساني، لاسيما في ظل تكاثر جهات تسعى لإقناع الناس بقيم «دينية» أخرى تعزز الانقسام والتعصب، وتشجع على كراهية الوطن من أجل اللاوطن.
وعندما نقول إن هذا النقاش لم يتخذ الأبعاد التي يستحقها، بسبب اختلاف المنطلقات، فلأن الذين ناهضوا تبني مادة التربية الدينية لم يتجاوزا قط عتبة الانطباعات، إذ استندوا إلى مادة دستورية تتكلم عن كون الإسلام هو الدين الرسمي للأمة، في حين لم يفهموا بأن التوجيه الملكي يتحدث عن مادة دراسية ومعارف مدرسية. والمؤسف هنا أكثر هو أن هذه الحكومة لم تلتقط قط فلسفة الرسالة الملكية، تماما كما لم تلتقط رسائل كثيرة قبلها، لاسيما في مجال التعليم، لذلك اكتفت فقط بدور «الإطفائي»، فسمعنا الناطق باسم الحكومة «يطمئن» عموم الناس بكون تسمية التربية الإسلامية باقية، لكنه لم يبادر هو وباقي الوزراء المعنيين بالتوجيه الملكي، إلى تنظيم لقاءات تواصلية مع أهل الاختصاص، من الباحثين في التربية وعلوم الدين والديداكتيك والعلوم الاجتماعية، لتطوير تصور مجتمعي جديد، حول الموقع الذي سيحتله تعلم الدين في منظومتنا التربوية، وهو كما قلنا سابقا، يبقى نقاشا مطلوبا بإلحاح، ومن يطلع على مختلف التجارب التربوية الناجحة عبر العالم، سيتأكد مما نقوله هنا، فالمعارف الدينية كانت دوما في صلب إصلاحاتها، تنقيحا وتجديدا، ولمن اهتم بهذا الموضوع، نطلب منه أن يقرأ عن العمل الجبار الذي أنجزه الفيلسوف الكندي الكبير «جورج لوغو» Georges Leroux في مجال التربية الدينية في منطقة الكيبيك الكندية، وهي منطقة تمثل اليوم نموذجا حقيقيا للتعايش بين الثقافات والديانات واللغات. هكذا فوتنا فرصة أخرى لتطوير تعليمنا، ولم نعط لأنفسنا الوقت الكافي لنطور فهمنا لإحدى أكبر الإشكالات التي واجهتها الأنظمة التربوية الحديثة عبر العالم، منذ تم إقرار ما بات يعرف بالمدرسة العمومية.