لنتخيل كيف نتخيل
قدر بعض العلماء أن المرئيات أو المسموعات تنطبع في الدماغ كما تنطبع الصورة على جزئيات الفضة في لوحة الفوتوغراف الحساسة، ومن خلال هذا التفرق للصورة، والبعثرة للذكرى، بحيث تزدحم الذكريات في جزيئات خلايا الدماغ كالفسيفساء وبقدرة قادر، تجتمع هذه الجزيئات المتفرقة لتعيد تشكيل المنظر الذي رآه الإنسان، ولكن من خلال هذه الكومات والأكداس الهائلة من الذاكرة يبدأ العقل في إمكانية إيجاد صورة جديدة، فهو يتخيل الجن على صورة معينة، أو يتخيل جنة عدن على صورة معينة، وهكذا تبرز خاصية جديدة من خصائص الجهاز العقلي الجبار وهي خاصية التخيل، ويتعقد الأمر أكثر عندما تستطيع إثارة التخيل عند من يستمع إليك بتحريك كومات الذاكرة عنده؛ فإذا به يجمع الجزئيات ويكومها ويتخيل ما تتخيل أنت، ثم يتعقد الأمر إلى درجة تجعل الرأس يدور، عندما يفكر على هذا النحو، وكيفية استخلاص العلاقات من بين الأشياء التي ترد إلى الذهن، فما الذي يجمع مثلاً بين العجلة وقطعة النقود والقمر والشجرة؟ الاستدارة، ولكن ما تقول عندما استطاع العلماء أن يكتشفوا سنن الكون، فأرخميدس اكتشف قانون دفع السوائل (دافعة أرخميدس) وأينشتاين اكتشف النظرية النسبية، ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية، وابن الهيثم اكتشف أسراراً في عالم البصريات، وهكذا..
وعلى قدر مزج هذه الذكريات والخروج بنتائج جديدة تسمو شخصية الإنسان…
إن 27 حرفاً تستخرج منها آلاف الآلاف من الكلمات، فما هي الأفكار والآراء التي يمكن استخراجها من مليارات المليارات من معلومات الذاكرة؟ حقاً إنه شيء مدهش، فما أتعس الإنسان الذي يبلد ذهنه ويعطي لعقله إجازة مفتوحة، أو يطلق لشهواته العنان.
(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً) سورة مريم.
إن شخصية الإنسان هي مجموع لحظات الجهد الواعي. وكما قال جون بفايفر:
«إننا نمثل في أية لحظة حاصل جميع ذكرياتنا وجميع الانطباعات التي تركت آثارها على أجهزتنا العصبية».
ذاكرة الإنسان أشبه ما تكون بالمكتبة: من ينظر إلى مكتبة عامة تضم آلاف الآلاف من الكتب على رفوف أنيقة، وبين الحين والآخر تسحب بعض الكتب من بعض الرفوف لاستخراج كلمة أو جملة ثم يرجع الكتاب إلى مكانه، وبين حين والآخر ترد كتب جديدة ونشرات حديثة تضم إلى مجموعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة، من ينظر إلى هذه المكتبة، يجد خليطا عجيبا من شتى المعلومات والأرقام والإحصائيات والأسماء والأشياء، وإذا تمكنت ـ أيها القارئ ـ من التنقل بين ممرات هذه المكتبة الضخمة الأنيقة من غرفة إلى أخرى ومن رف إلى آخر؛ فإنك سوف تصل في نهاية المطاف إلى قاعات كبيرة جداً، وقد تراكمت فيها أكداس مخيفة من الكتب فوق بعضها البعض وقد علاها الغبار، ولا تمتد لها يد الاستعمال والمطالعة.
إن ذاكرة الإنسان أشبه ما تكون بهذه المكتبة، فهناك بعض المعلومات التي تستعمل باستمرار، وهناك المعلومات التي تضاف باستمرار، وهناك أكداس هائلة من المعلومات لفها النسيان [آفة العلم النسيان ـ حديث] وقد يتساءل الإنسان هل كل ما فعله الإنسان أو سمعه أو رآه محفوظ في هذه السجلات أو هو في عالم الفناء؟
هذا أيضاً سؤال بحث فيه العلماء وقد انتهوا إلى نتائج مذهلة في هذا الصدد، فلا شيء يضيع (وكل شيءٍ عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) سورة الرعد.
ونروي في هذا الصدد هذه الحادثة: جرّبت طريقة التنويم المغناطيسي على بنـّاء ماهر يشتغل في بناء الأبنية ذات الهندسة الفنية الرفيعة، ثم طرح عليه سؤال عن طوبة موجودة في جدار ما، من بناء ما، كان قد بناه في زمن ما، فكان جوابه أن هذه الطوبة كانت قد حرقت في الأتون أكثر من اللازم، وأنها تحوي في الزاوية السفلى منها حصاة أرجوانية، وأنها تحوي في الزاوية اليمنى العلياء نتوءا يشابه الانخفاض الموجود في الطوبة التي فوقها، وأعطى أوصافاً كانت مطابقة تماماً لتلك الطوبة الموجودة في الجدار، هذا مع العلم بأنه كان قد بنى ألفي طوبة في ذلك اليوم، ومنذ عشر سنوات؟
عندما يصل الإنسان إلى هذا الحد من التفكير تعتريه قشعريرة، ويشعر بالبرودة تتمشى في مفاصله، ويشعر أن كل شيء يقوم به أو يراه أو يسمعه هو موجود في سجل لا يضيع. (وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون)،
(إنْ كُلُّ نفس لما عليها حافظ)،
(وقالوا يا وليتنا مال هذا الكتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً)..
نمو الذاكرة: تنمو الذاكرة مع نمو الإنسان، فهي تبقى لمدة لحظات عندما يكون الطفل ما بين الشهر الثالث والسنة الأولى من العمر، وعندما يصل الطفل إلى نهاية السنة الأولى، تبدأ الذاكرة في الاستقرار وتستمر لمدة أسبوعين، وفي نهاية السنة الثانية تمتد لمدة بضعة أشهر، وفي نهاية السنة الرابعة تمتد ما امتدت الحياة، والذاكرة عنيدة على الزوال فهي لا تنتهي إلا بالموت، وتكون تجربة الموت هي آخر التجارب التي يمر بها الإنسان.
(وجاءت سكرة الموت بالحق وذلك ما كنت منه تحيد).
علاقة الذاكرة بالذكاء: ونقف قليلاً لنطرح السؤال التالي وهو: ما هي علاقة الذاكرة بالذكاء، وهل يتفاوت الناس في ذاكرتهم؟
أما الذاكرة فهي القدرة على استيعاب المعلومات واسترجاعها، وأما الذكاء فهو القدرة الذهنية على الفهم والتحليل والربط والاستنباط والتخيل والإبداع، والحق يقال إن الذكاء شيء محير كما أننا عندما نطلق على فلان أنه قوي الشخصية وآخر ضعيف الشخصية، إن حكمنا هذا سريع ولكن تحليله يحتاج لمجلدات!
وأما تفاوت الناس في ذاكرتهم فهذا وارد، ولكن أصدق ما يقال في هذا الباب أن جميع الناس على الإطلاق يمتلكون مقدرة متقاربة من الذكاء والذاكرة، وقلة نادرة جداً من الناس هي التي تكون مزودة بملكات عقلية راقية، وأقول حتى النقطة الأخيرة مشكوك فيها إلى حد، لأن الرقي الذهني إنما يأتي من الجهد المبذول، واستعمال هذا الجهاز الجبار الذي لا يعرف الكلل أو الملل، إن الدماغ لا يعرف التعب حتى ولو عمل ما يزيد على عشر ساعات متواصلة، وإنما الذي يتعب هو البدن بالقعود بكيفية معينة!!
ولذا فإن العباقرة والفلاسفة وعظماء المفكرين إنما تكونت مواهبهم من استغلال هذه القدرات الدفينة، وهذه الطاقات الكامنة ذكرنا فيما مضى أن كل خلية عصبية تتصل بما يقرب من خمسين خلية عصبية أخرى، وأحياناً يصل هذا الأمر إلى ألف (1000) خلية عصبية، ومن هنا ندرك قيمة الممرات والشبكات، حيث تتشكل شبكة كثيفة مخيفة من الاتصالات، وقد نصاب بالدوار فيما إذا بدأنا نتصور عدد المرات التي يمكن أن تتشكل بعد هذه الاتصالات الكثيرة؟
إن تعلم الكلمات والأفكار والمهارات إنما يعني تشكل ممرات جديدة، وسرعة إعادة ما تعلم إنما يعني أن الطريق معبد لمرور النبضات الكهربية عبر هذه الممرات العديدة، والدهاليز المخيفة، والتعرجات العجيبة، ولذا فإننا نقرر حقيقة أساسية عرضها القرآن أيضاً بشكل منير، وهي أن في مقدور الإنسان أن يصل إلى درجة هائلة من الرقي، ولكن هذا إنما يتم ببذل الجهد وإيجاد ممرات عصبية جديدة، ومن مزيج ذكريات الإنسان تحصل تفاعلات معقدة جداً، ومن العقل الواعي المتدبر تستنبط علاقات جديدة، وأفكار باهرة.
(والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) سورة العنكبوت.