شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

لماذا يختلف الإنسان عن الآخر؟

بقلم: خالص جلبي

 

سؤال وجودي يفاجأ به كل طفل في لحظة، فيكتشف نفسه ذكرا كان أو أنثى، مسلما أو غير مسلم. وأذكر من طفولتي هذا الاكتشاف، عندما هرعت مع فريق من الأطفال النصارى إلى مخيم صيفي، فحرمت من شرب الماء، حينما صاح أحدهم: هذا (مسلمي)، يقصد مسلما، فلا تذيقوه الماء. وما زالت الكلمة ترن في أذني حتى اليوم، لأنني اكتشفت في ذلك اليوم أنني مختلف عن الآخرين ومحروم من جنتهم.

وأتذكر من الجامعة عندما التقيت بأحدهم وعيونه تفحصني، وهو يتشمم أفكاري كما تفعل الأرانب حين الاقتراب من أرنب غريب. فكنت إذا ذكرت فكرة استنكرها بكل الأدلة (النقلية والعقلية). وبعد أسبوع التقيت به، وإذا بمعارضته تحولت إلى استسلام، فقد أخذ (الأخ) التزكية من حراس العقيدة في التنظيم، فحمدت الله على المصادفة. والأحزاب في العادة تصطاد الأتباع من الدراويش السذج، فتحصرهم ضمن سياج من الرقابة، مثل الخرفان في الحظيرة، معزولين عن أي فكر ومن دخل عليهم بفكر مغاير اعتبر ذئبا يفترس أتباعهم. وفي يوم دعيت لخطبة جمعة وإلقاء درس في مونتريال، فهضموا الخطبة مع قناعتي أن خطبة الجمعة ميتة ومصادرة من ثلاثة اتجاهات داعش وفاحش وماعش، أي المتشددون الذين يدعون بالهلاك على تسعة أعشار الجنس البشري، ووعاظ السلاطين الذين يأكلون من مائدة السلطان، وبحمده يدعون أن يبقى على رؤوس العباد إلى يوم التناد، أو النائمون في استراحة المماليك البرجية، أيام سعيد جقمق وخوش قدم والسلطان برقوق بدون برقوق! طبعا كانت خطبتي والدرس الأولى والأخيرة، فقد خاف حراس العقيدة على خرفانهم وطردت من جنتهم.

وفي قرية «عامودة» من منطقة الجزيرة في سوريا، رأيت فيها أربعة مساجد للمذاهب الأربعة كل يصلي بطريقته ووقته. وما زلت أذكر شيخ الحنفية، وهو يستشهد بحاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، أن مذهبه هو الأعلى. والنقاش في مثل هذه الحالات غير مجدي، والنصوص لا تخدم إلا في زيادة الانشقاق. وكما يقول الوردي إن كل فريق عنده استعداد أن يجند كل الأدلة «العقلية والنقلية» على صحة مذهبه. وفي العادة تحصل العداوات من وراء اختلاف الآراء، وأنا شخصيا في مجموعتي «الواتساب» هرب منها عدد تبرأ مني، وقال كذاب أشر. وفي حرب الخليج عام 1990م انعقد مؤتمران إسلاميان في مكة وبغداد، حضرهما قادة الفكر الإسلامي، كل يؤكد بكافة الأدلة صحة ما ذهب إليه فريقه، ومعه كل الفتاوى والأدلة من النصوص. والذي حسم الموقف لم يكن المفكرون الإسلاميون، بل أمريكا بصواريخ «توما كروز».

وفي حي الميدان بدمشق حضرتني صلاة العصر في مسجد، فرأيت أناسا يصلون وأناسا ينتظرون إمام مذهبهم، وبذلك قسمت المذاهب الناس شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون.

وفي بعض كتب الفقهاء يطرح السؤال على الشكل التالي، هل يجوز زواج الشافعية من الحنفي؟ ما يذكر بصرخة فولتير عندما أرادت كاثوليكية الزواج من بروتستاتني، فهرع الكاثوليك لقتله، فكتب فولتير مقالة نارية بعنوان: اسحقوا العار.

وفي طهران تقدمت لأصلي بالناس صلاة العصر، وكنت في زيارة إليهم بمناسبة ذكرى الثورة من عامها الثاني، فلم يصل خلفي إلا نفر قليل من الأتراك، حتى جاء إمام الشيعة فاحتشدت خلفه الجموع، وبدأ التكبير. وطبعا كانت زيارتي الأولى والأخيرة أن أغسل يدي منهم سبعا. وفي الجولان من سوريا جمع الحب بين فتاة شركسية وشاب درزي، فحصلت أزمة مخيفة ضد التقاليد والمذاهب، وكاد الحب أن يذوي الاثنين، حتى تغلب الحب فتزوجا وأنجبا، ولم تستمر العلاقة فتطلقا ومات الزوج.

هذا السؤال الوجودي يطرح نفسه، ليس باتجاه الأسفل في اكتشاف تشقق الفصائل الإنسانية، وتعدد الملل والنحل والمذاهب وفصائل الفصائل، بل صعودا في شجرة الفكر والعقائد إلى الأعلى. فإذا كانت الشجرة تتفرع ومن كل فرع تصدر فروعا جديدة، فإن رحلة العودة، سواء في مستوى الشجرة أو الخليقة والأفكار، تتوحد تدريجيا.

ونحن نعلم من علم الأنثروبولوجيا أن مصدر الإنسان ليس القرد، ولكن القرود بأنواعها من الأورانج أوتان والشمبانزي والغوريلا تجتمع في فرع خاص بها، لتلتقي مع فرع الإنسانيات «الهومونيد»، ليشكلا فرعا أكبر في شجرة الخليقة من كائن أقدم من الاثنين هو (مفترس الحشرات)، الذي وجد قبل عشرة ملايين سنة.

ومن هذه المقارنة بين شجرة الخليقة وشجرة الأفكار والملل والنحل، نعرف أن أحدنا لا يزيد على ثمرة من شجرة عملاقة. وهو يعلمنا التواضع والتسامح وتقبل الآخرين.

وروى لي جودت سعيد أنه كان طفلا فواجهته معضلة فكرية، فسأل أمه عن نوعين من الدعاء تعلمهما من المدرسة. لماذا كان الدعاء دعاءين؟ قالت: الدعاء الأول هو للمذهب الحنفي والثاني للشافعي، ونحن على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة. انطلق التفكير على نحو مسلسل انشطاري، لماذا اختلف الحنفي عن الشافعي؟ وما معنى وجود أكثر من أربعة مذاهب في الدين الواحد؟ وما معنى اختلاف الشيعي عن السني؟ بل ما معنى اختلاف المسلم عن المسيحي، والمؤمن عن الملحد الذي لا يؤمن بدين؟

وإذا كانت الأمور على هذا الشكل من التعقد، فمن يغامر بقتل الآخرين يبرمج لقتل نفسه، يذكرنا بقول برتراند راسل حينما سئل، هل عندك استعداد أن تموت من أجل فكرتك؟ أجاب: لا، لأنني قد أكون مخطئا. وينقل عن نيتشه: أن من أراد هدوء البال والسعادة فليعتقد، ومن أراد أن يكون من حواري الحقيقة فليسأل.

 

نافذة:

إذا كانت الشجرة تتفرع ومن كل فرع تصدر فروعا جديدة فإن رحلة العودة سواء في مستوى الشجرة أو الخليقة والأفكار تتوحد تدريجيا

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى