لماذا يجب أن نكتب؟
لماذا يجب أن نكتب؟ ببساطة لأن الكتابة سر من أسرار الوجود الإنساني. تجربة الكتابة هي أول ما يبدأ به الطفل في تشخيص حالاته، وذلك بالشخبطة على الحيطان أو تلوين الصور، أو خربشات بدون معنى على الكتب والمجلات، لكنها تعني أكثر من مجرد شخبطات طفل… هي تعبير عن عمقه ودواخله، يجهل معناها أقرب المقربين إليه، تتناثر عبر أصبعيه، لا تستوعب خواطره طفولية حينها سوى الكتابة، حتى أمه قد تكون أبعد من أن تدرك عمق ما يفكر به، فتجده يخط بيديه بسلاسة وسهولة، حيثما وجد ورقة وقلما رسم شيئا، معبرا بذلك عن إنسانيته الكاملة، التي لم تتلوث بعد بالنظام التعليمي والوصايا المليون للمجتمع والعشيرة، تلك التي ما تلبث تقتل فينا نزعتنا للحرف والقلم، فالوجود في حقيقته كتاب.. كتاب إلهي كُتب وسُطر، وها نحن نقرؤه وبالكتابة نترجم وجودنا فيه!
الكتابة هي أعمق من مجرد سطور متوازية لا تلتقي، تنصهر لتعطي رواية، جريدة، مجلد. هي أعمق من مجرد مقالات تنشرها كاتبة في عمود يومي تجني منها ما ترتديه من أكسسوارات. هي أكبر من ذلك كله.
في المجتمعات المتنورة، تعد الكتابة أسلوب حياة، يستيقظ الشخص المقدر لإنسانيته، فيكتب مشاريع يومه، أحاسيسه، تخيلاته، توقعاته.. يجعل من الحبر وحيا تتقدس به الورقة، يخبئها ويحتفظ بها كما يُحتفظ بالقصاصات الأسطورية، يكتنزها ككنوز الفراعنة والإغريق، ويصونها كما صان القدر اعترافات هيبا ووسوسات عزازيل، يعود إليها ويكتب غيرها حتى يشكل كتابا يحتوي على كل محطات حياته.
الكتابة هي ذاتنا العميقة التي تبوح بما يعجز عنه اللسان، هي أرضنا التي نزرع أرواحنا داخلها ونجني فردوسا من الخواطر التي يمكن أن تزلزل مجتمعا برمته، هي المحيط الهادئ، المعروف بسكونه المرعب، سكون يستحيل لأعاصير إذا ما حركت قاعه فكرة. الكتابة هي الحب المقدس، والميثاق الغليظ، وليلة التجلي وساعة الدعاء وشهر العبادة وسنوات الحج.. هي الوريد الذي يربط الروح بالجسم، الشعرة التي قد تحجب الرؤية عن العين، هي النقطة التي تحرك الماء الراكد في الكأس . فأن تكتب.. معناه، أن تحيا بالحياة وأن تحيا بك الحياة. أن تكتب… يعني أن تتحرر من عوائق التاريخ ونزعات أرباب المجتمع. أن تكفر بنظام تعليمي يعلمك فقط الإنشاء حول موضوع التربة والزراعة وعطلة الأسبوع، في حين لم يطلب منك يوما أن تعبر عما تشعر به إزاء الأرض! أن تكتب يعني أن تكتشف نفسك كل يوم من خلال سطورك.
أن تكتب خاطرة تؤمن بها بعمق، خير لك من شهادة عليا لم تؤمن يوما بقيمتها ولم تنلها سوى لأنك وجدت الناس يحصِّلون الشهادات، فأغمضت عينيك وألجمت روحك… ولحقت بالركب !