من المعلوم أن المستوى الاجتماعي والثقافي للأبوين له دور كبير في توجيه الأبناء وتتبع مسارهم الدراسي وخلق الحافزية للتعلم لديهم، ومن المؤكد أيضا أن حجم المشاكل الأسرية وظروفها المادية لها الأثر في تحصيلهم الدراسي. ويتبين فعلا أن المستوى الاجتماعي والاقتصادي تترتب عنه تباينات في ممارسات التنشئة الاجتماعية والمواكبة الأسرية، وأن هناك علاقة وثيقة بين هذا المستوى ومستوى الطموح والتطلعات، ثم مستويات التحصيل الدراسي لدى الأبناء تبعا لذلك. وهذا ما أشار إليه تقرير صادر سنة 2018 عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حمل عنوان «مدرسة العدالة الاجتماعية»، حيث أقر فيه بأن «المدرسة المغربية العمومية تخضع لتأثيرات الفوارق الاجتماعية، حيث يلج كل طفل المدرسة وهو محمل بإرثه الاجتماعي».
محمد رياض:
سنتناول مسألة تتعلق بالتتبع والمواكبة الأسرية للأبناء، حيث نجد العديد من الآباء والأمهات لا يطرقون أبواب المدارس والمؤسسات التعليمية حيث يدرس أبناؤهم، خاصة في مرحلة التعليم الثانوي بسلكيه الإعدادي والثانوي ولا يأتي بعضهم إليها إلا في الحالات التي تستدعي الضرورة القصوى حضورهم كالغياب المتكرر أو حدوث طارئ صحي أو مشكل سلوكي.. وفي غير هذه الحالات لا يطأ الآباء والأمهات مؤسسات أبنائهم للاستفسار عن درجة تحصيلهم الدراسي ومعرفة إيقاع تعلماتهم وسلوكهم.
السؤال المطروح إذن: لماذا لا يطرق الآباء والأمهات أبواب المدارس لتفقد مستوى تحصيل أبنائهم؟
كثير من الآباء والأمهات يجدون أنفسهم، في خضم الحياة ومعتركها وانشغالاتها ـ سعيا إلى توفير لقمة العيش ـ منشغلين عن هذا الموضوع ويغفلون دورا مهما من أدوارهم وبعضهم ينسى طوال العام الدراسي أن له أبناء يدرسون في هذه المؤسسة التعليمية أو تلك، والبعض الآخر لا يعرف في أي مستوى أو سلك دراسي تتابع ابنته أو ابنه دراسته، ويكاد ينحصر هم الدراسة والاهتمام بها لديهم في فترة الدخول المدرسي بأعبائه المادية وخلال فترة الامتحانات وإعلان نتائجها في نهاية السنة الدراسية، وبين الفترتين غياب تام. فالعديد من الآباء والأمهات لا تطأ أقدامهم أرض المؤسسة حيث يتابع أبناؤهم دراستهم للاستفسار عن درجة وإيقاع تحصيلهم الدراسي وما يواجهونه من تعثرات وصعوبات دراسية وسلوكية، ولا يدركون أهمية التتبع الأسري لمسار الأبناء عبر الاتصال والتواصل مع إدارة المؤسسة والمدرسين بالدرجة الأولى، وهم يغفلون أن هذا التواصل قد يكشف أحيانا عما يتمتع به الأبناء من مواهب وقدرات تجهلها الأسرة فلا تحظى بالفرصة للانتباه إليها والعمل على صقلها وتطويرها. فمواكبة الأسرة وتتبعها لأبنائها والسهر على حسن تربيتهم وجودة تكوينهم يمثل استثمارا حقيقيا، فبناء الطفل/ الإنسان وتكوينه وتأهيله لحياة سليمة ناجحة أفضل من أي استثمار آخر مهما كان حجم الأرباح التي تجنى منه. وبذلك فلا مبرر للانصراف عن هذا الأمر مهما كانت الظروف، والواقع يكشف حقا عن نماذج وحالات أسر استطاعت تحدي إكراهات واقعها الاجتماعي وظروفها المادية العسيرة وتمكنت من دفع أبنائها إلى تحقيق طموحها المعرفي والمهني. هي استثناءات وحالات محدودة لكنها ملهمة للعديد من الأبناء والتلاميذ، ولكنها لا تجعلنا نغفل ما للمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة من أثر بالغ على تعليم الأبناء كما أسلفنا الذكر.
إن الأبناء لا يتمكنون في الغالب من تحقيق تحصيل جيد في غياب تتبع أسري يمارسه الآباء والأمهات على السواء خاصة في المستويات التعليمية الأولى، وبالتالي لا يتمكنون من تدارك الصعوبات التعليمية الحاصلة لديهم والتدخل الفوري لمعالجتها وإيجاد الحلول الكفيلة لتجاوزها مما يؤدي إلى تراكمها، فيفضي ذلك إلى حصول اختلالات تتعمق كثيرا في المستوى الثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي. وهو ما يعبد الطريق للأبناء لإهمال دراستهم أو التغيب عن فصولهم الدراسية أو ممارسة الشغب والتوجه إلى الانحراف.
تتكاثف عدة عوامل لتعزز هذا المنحى، منها كثافة البرامج الدراسية وعدم نجاعة التقويم بأشكاله، واكتظاظ الأقسام وعدم فعالية الدعم في ظل غلاف زمني مدرسي نمطي غير متجدد وفي ظل شروط وإكراهات المهنة التي صار معها الشعور بالإحباط والسلبية يحول دون القيام بمبادرات الدعم والتنشيط التربوي الهادف التي لها مفعولها القوي في العملية التربوية ككل. تنضاف إلى ذلك قلة الأطر الإدارية وأطر الدعم الاجتماعي العاملة في أغلب المؤسسات التعليمية التي لا يمكن معها التتبع الدقيق لمسار المتعلمين ونتائجهم وإكراهات التعلم لديهم، فهناك أعداد كبيرة من المتعلمات والمتعلمين يعانون هشاشة اجتماعية ونفسية يعبرون عنها بأشكال مختلفة تتمثل في الغياب المتكرر وإهمال الدراسة والشرود واللامبالاة والسلبية وأحيانا اللجوء إلى العنف.
فئة أخرى من الآباء والأمهات تجد حرجا كبيرا في القدوم إلى المؤسسات التعليمية، فهؤلاء لا يرغبون في سماع تفاصيل عما يعلمونه أو لا يعلمونه عن أبنائهم من تعثر دراسي وإهمال ولامبالاة بالدراسة وغياب للانضباط الذاتي لديهم، فبعضهم لا حول ولا قوة له ولا يملك من القدرة على التوجيه الفعلي لأبنائه وفرض سلطته المعنوية عليهم خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والقيمية وانعكاساتها على الأجواء الأسرية والعلاقات بين الآباء والأبناء، وتسلل مؤثرات جديدة تجاوزت سلطة الأبوين وفعلت فعلها في إحداث صدع مس أركان البناء الأسري، وأدت إلى إرساء منظومة قيمية جديدة تعلي من شأن الاستهلاك وما يفرزه من سلوكيات جديدة لا يمثل اكتساب المعرفة والثقافة فيها مطمحا يحظى بالاهتمام اللازم لدى الفرد.
وإذا كان الخطاب الذي يتخلل مختلف بنود وثائق الإصلاح التربوي، بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين والرؤية الاستراتيجية وخارطة الطريق، يعتبر الأسرة شريكا في العملية التربوية ويحدد معالم هذه الشراكة. ورغم كل المجهودات المبذولة في هذا الصدد، فإن الواقع يفصح عن أزمة تواصل قائمة بين المدرسة والأسرة، والذي من شأن حصوله أن يثري العملية التربوية ويمد جسور التفاعل والدعم والتعاون بينهما. ولا يمكن أن يتحقق هذا الأمر منعزلا عن سياقات وشروط نجاحه الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، فالمدرسة بمفردها لن تستطيع أن تنهض بأعبائها وواجباتها على أكمل وجه إلا في ظل تعاون وثيق بين الأسرة والمدرسة عبر كل القنوات الممكنة لتحقيق التواصل المثمر والفعال، وفي تناغم تام مع باقي وسائل التنشئة الاجتماعية الأخرى، ومنها وسائل الإعلام التي يجب أن تقوم بواجبها في التوعية بقيمة وأهمية العلم والمعرفة ودورهما في الارتقاء بالإنسان، والترويج للصورة الإيجابية لوظائف المدرسة والمدرسين وتغطية أنشطة المؤسسات التعليمية، والمساهمة في تنمية القيم والاتجاهات والسلوكات الإيجابية.