شوف تشوف

الرأي

لماذا تونس مهمة

مروان قبلان

في ظروف اعتيادية ما كان لتونس أن تستأثر، ربما، بكل الاهتمام الذي تلقاه اليوم في دوائر الفكر والسياسة، كما في وسائل الإعلام وأوساط الرأي العام، فهي بلد صغير المساحة، قليل السكان نسبيا فقير الموارد، ضعيف الاقتصاد. ولهذه الأسباب، لا تشكل مطرحا للتنافس الإقليمي والدولي، كما هو حال جيرانها. ولكن أهمية تونس لم تكن يوما بحجمها، ولا بإمكاناتها الاقتصادية، ولا بدرجة التنافس الدولي عليها، بل بدورها الفكري والحضاري الرائد وإرثها السياسي الملفت عبر التاريخ. فلا تُذكر تونس إلا وتذكر معها الزيتونة والقيروان، اللتان شكلتا لقرون منارة للفكر والثقافة في شمال إفريقيا. وخلال القرنين الرابع عشر والتاسع عشر أعطت تونس للعرب والعالم اثنتين من أهم الشخصيات في تاريخ الفكر والسياسة الدولية: عبد الرحمن بن خلدون، رائد علم الاجتماع الأشهر (1332 – 1406)، والوزير والمفكر الإصلاحي البارز خير الدين التونسي (1820 – 1890). وفي فترة أقرب اختارها العرب، من دون كل عواصمهم، لتكون مقرا لجامعة الدول العربية بعد تعليق عضوية مصر عام 1978، واختارتها منظمة التحرير الفلسطينية مقرا لها بعد خروجها من لبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982، ثم إجهاز النظام السوري على المنظمة في طرابلس عام 1983. وفي 2010، كانت تونس مفجرة ثورات الربيع العربي، والوحيدة التي نجت من تداعياته الكارثية، فسلكت طريق الانتقال الديمقراطي.
بعد تونس، فقدت ثورة إيران قدرتها على الإلهام، وصار للعرب ثورة نجحت، بعكس إيران، في إنشاء ديمقراطية. لكن الأهم من ذلك كله أن تونس حطمت، بتحولها إلى الديمقراطية، أسطورة «استثنائية» الحالة العربية والمزاعم التي سادت الأكاديميا الغربية حول «التناقض الجوهري» بين الإسلام والثقافة العربية والديمقراطية.
الحديث عن أن المنطقة العربية تتميز بخصائص ثقافية ودينية وبنية فكرية ومجتمعية تجعلها عالقة في الماضي، غير قادرة على المضي إلى الأمام والتصالح مع الحداثة، حديث قديم بدأ مع الفيلسوف الفرنسي، إرنست رينان، في القرن التاسع عشر، واستمر مع برنارد لويس وكثيرين غيره في القرن العشرين. لكن الاستثنائية العربية المزعومة بشأن الديمقراطية لم تبدأ إلا مع موجة التحول الديمقراطي الثالثة في العالم (أشار إليها صمويل هنتنغتون في كتاب حمل العنوان نفسه)، وشملت دول جنوب أوروبا (اليونان وإسبانيا والبرتغال) في السبعينيات، ودول أمريكا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل) في الثمانينيات. ومع اكتساح الديمقراطية كوريا الجنوبية وتايوان في أواخر الثمانينيات، بدأت هذه الاستثنائية تأخذ منحى أكثر حدة، خصوصا وأن هذه البلدان كانت تمر بظروف مشابهة لظروف العالم العربي الإسلامي. ثم راحت هذه الاستثنائية تأخذ أبعادا ثقافية ودينية، مع انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية وبلوغ الديمقراطية مجتمعات إفريقية (جنوب إفريقيا)، ما جعل الحالة العربية الإسلامية شبه فريدة. ولكن ظهور تجارب ديمقراطية، وإنْ تعثرت أحيانا، في دول إسلامية مثل باكستان وبنغلادش وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، أثبت أن الإسلام والديمقراطية يمكن أن يتعايشا، ما جعل العرب يبدون وكأنهم المكون الثقافي الوحيد المتبقي خارج سياق التحول التاريخي الكبير.
نجاح التجربة الديمقراطية التونسية أسقط كل أساطير «الاستثناء» العربية، إذ بينت أن العرب، كغيرهم من الأقوام، يقدرون عاليا قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ويسعون إلى نظم سياسية تمثيلية أساسها القانون. من المهم أن يدرك الرئيس، قيس سعيد، حجم الرهان هنا، فلا يعود بنا إلى مربع الاستثنائية الثقافية العربية التي ينتظر القائلون بها فشل التجربة التونسية، حتى يدمغونا بها مرة واحدة وإلى الأبد. هذه ليست إذاً مسألة حزبية محلية، أو خلاف سياسي، أو طموح شخصي، بل هي مسألة عربية تاريخية كبرى، وينبغي التفكير بها على هذا الأساس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى