أظن أنني في حياتي عملت أفضل ما يعمل رب عائلة، فقد حصلت أعلى مستوى طبي من أوروبا. وحين دخلت بلاد النفط للعمل، عرفت أنها ليست دار مقام، فحملت عائلتي كما تفعل القطة مع صغارها إلى مكان آمن، فزرعتهم وأولادهم في كندا. ولم تكن عائلتي سوى أول الغيث، فقد تتابع السيل حتى أصبحنا قبيلة بأربعين فردا. وأظن أنه في مدة السنوات القادمات سيرتفع الرقم إلى المئات. وكنت اليوم أدرس أحفادي كرونولوجيا القرآن، في أول سورة نزلت «العلق». بدأت معهم في السؤال، تصوروا أن رجلا وقف يوما وادعى أن العناية الإلهية تكلمت معه؟ وهكذا قمت بمدخل فلسفي مبسط لأحفادي الكنديين. وتمنيت أن يكون جدي فعل معنا هذا، ولكن سؤال الجنسية الكندية أذكره جيدا في مقابلة في قناة فضائية. وفي العادة فإن مقدمي برامج الفضائيات يريدون منك أن تقول ما يرغبون، وهنا التحدي فيجب أن نقول ما لا يريدون. وهو ما سألني أحدهم حين قال: كيف تعرف نفسك للناس؟ قلت: أنا تركي الأصول، والدي من ماردين وأمي من البحر الأسود من مدينة سامسون، سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، ألماني التخصص الطبي، كندي الجنسية، عالمي الثقافة، إنساني النزعة، أتكلم بلسانين من التراث والحداثة، وأدعو للطيران إلى عالم المستقبل بجناحين من (العلم) و(السلم).
هنا يأتيك سؤال فيه قدر من التغابي والخبث ومحاولة زحلقة المتكلم، ليهجم بسؤال أشد حساسية إلى السؤال الثاني: هل يمكن أن تخبرنا لماذا تجنست بالجنسية الكندية؟ قلت بشفافية ولكن بكلمات موجعة: استبدلت الأدنى بالأعلى!
قفز مقدم الرنامج إلى السؤال الثالث مثل صاعقة الفولتاج العالي، وهل كانت جنسيتك السورية الأدنى؟ كان جوابي مرة أخرى واضحا وأشد إصرارا: أنا إنسان عالمي، والله رب العالمين، والأرض لله، وأنا دخلت بلدكم بتأشيرة مفتوحة لمدة شهرين من المطار، بدون رسوم (Charge free).
كانت إجابتي هذه مجرد سطح لعالم موجع يعيشه المواطن العربي، في وطن بعضه لبعض عدو، تحول إلى سفاري تسرح فيها الضواري، ليس فيها أي ضمانة لأي شيء، في أي مكان وزمان ولو لقطة ويعسوب! فحيث دخلت غالب الحدود العربية طالعك وجه موظف عابس، مهمل، كاره لعمله، كما رأيت في بلدي سوريا الذي كان يوما بلدا تفوح منه رائحة الذلة والقلة والفوضى، يتنفس فيه المواطن المنكوب جزئيات الهواء معطرة برجال الأمن. ولعل أجمل اللحظات هي في الطائرة، قبل الدخول وما بعد الخروج بالسلامة. وتبقى مغامرة الدخول مثل الولوج إلى غابة تعج بالضواري.
وفي بلد من هذا النوع لا يبقى وطن ومواطنة، أو روح انتماء، وحس دفاع، بل أسير يسكنه الرعب من رجال الأمن، يزورونه في اليقظة والمنام. أقصى أمنيات المواطن فيه الفرار من القضبان والخلاص ولو على يد الأبالسة، وهو ما فسر سقوط بغداد السريع في ربيع 2003م.
وفي أرض لم تعد وطنا قد يصلح أن يكون مدفنا، لكن ليس للحياة بحال، فليس على الإنسان العربي إلا البحث عن وطن جديد، وهو مبدأ إبراهيم القديم الذي هاجر إلى ربه وجعلها وصية في عقبه. وحيث كان النمرود فر إبراهيم؛ فليس أجمل وأبدع من الحرية.
ما زلت أذكر لحظة دخولي مطار القاهرة مشهدا لا أنساه: ضابط كبير يذل ضابطا كبيرا إلى حد المسخ، وبمجرد تكلمي معه العربية لم يعد ينظر إلي.
وفي الأردن استولوا على جوازي الكندي، حيث قضيت يوما كاملا في ظلمات المخابرات بصحبة وجوه ممتقعة مصفرة خاشعة من الذل، فلا تسمع إلا همسا. وتمتعت يومها وأنا في الانتظار بقراءة «إيمانويل كانط»، فحفرت أفكاره في ذاكرتي بأخاديد لا تنسى. فلما انتهت حفلة منكر ونكير كانت وجهتي إلى المطار مباشرة على وصية لوط، ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
استبدال الجنسية العربية بالأوروبية أو الكندية كما حصل لابن أخي الدكتور ميسر في ألمانيا، قبل أيام من كتابتي مقالتي هذه، إذا تحصيل حاصل، فحيث الحبوب تهبط الطيور، وحيث الحريات تهفو القلوب، وحيث المال تهرع العمالة، وحيث الإنتاج المعرفي يذهب الشبان الطموحون للتحصيل المعرفي، وحيث الأمان يلجأ رأس المال، فالمال جبان، وحيث الضمانات يسعى عباد الله، فلا غرابة أن تسبح كندا في الرفاهية، وتتقدم بقوة إلى المستقبل، وترسخ فيها المؤسسات العلمية، وتبزغ شمس العبقريات.
وهذا الكلام ليس للدعاية إليها، فالناس تهجم على شواطئها بأشد من التسونامي الذي ضرب سومطرة وتايلاند. ولو فتحت السفارة الكندية أبوابها في عاصمة عربية للهجرة بدون شروط، لهرع إليها الناس مهطعين إلى الداع كأنهم جراد منتشر.
ومقابل ذلك في عالمنا العربي تنقلب الجمهوريات إلى ملكيات عكس عقارب الزمن، وتخرج جماهير غفيرة فقيرة، بدون مناسبة، تصفق كالقرود، في مظاهرات تافهة، بحياة القائد إلى الأبد، ولا أبدية إلا لله العلي الكبير.
في كندا وفي جلسة القسم لنيل الجنسية كنا 82 شخصا من 32 جنسية مختلفة، وما زلت أذكر القاضية وهي تتحدث ببطء وبلغتين: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين لا تفترقون عني بشيء. علموا أولادكم محاربة الظلم، وكل أنواع التمييز العنصري والجنسي والديني والعرقي. كان حديثها يذكر ببيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نادت الحضور كل باسمه، فوضعت في يده الهوية الشخصية، مع مرسوم الحريات والحقوق الشخصية. ثم التفت إلينا جميعا فقالت: والآن قوموا فسلموا على بعضكم البعض، فقد أصبحتم بنعمة كندا إخوانا. بكى معظم الحاضرين، وكان أكثرهم رجل فلسطيني احمرت عيناه من البكاء فهو كظيم.
خالص جلبي