شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

لماذا الجنسية الكندية؟

بقلم: خالص جلبي

 

كان ذلك اليوم في مواجهة الرأي العام في مقابلة تلفزيونية، حين سألني أحدهم: كيف تعرف نفسك للناس؟ قلت: أنا تركي الأصول، والدي من ماردين ووالدتي من سامسون على البحر الأسود، سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، ألماني التخصص الطبي، كندي الجنسية، عالمي الثقافة، إنساني النزعة، أتكلم بلسانين التراث والحداثة، وأدعو للطيران إلى عالم المستقبل بجناحين من «العلم» و«السلم».

هنا هجم بسؤال أشد حساسية إلى السؤال الثاني: هل يمكن أن تخبرنا لماذا تجنست بالجنسية الكندية؟ قلت بشفافية ولكن بكلمات موجعة: استبدلت الأدنى بالأعلى!

قفز المذيع إلى السؤال الثالث مثل صاعقة الفولتاج العالي: وهل كانت جنسيتك السورية الأدنى؟ كان جوابي مرة أخرى واضحا وأشد إصرارا: أنا إنسان عالمي، والله رب العالمين، والأرض لله، وأنا دخلت بلدكم بتأشيرة مفتوحة لمدة شهرين من المطار بدون رسوم (Charge free).

كانت إجابتي هذه مجرد سطح لعالم موجع يعيشه المواطن العربي، في وطن بعضه لبعض عدو، تحول إلى سفاري تسرح فيها الضواري، ليس فيها أي ضمانة لأي شيء، في أي مكان وزمان ولو لهرة («مُشٍٍْ» باللهجة المغربية) وكلب ويعسوب.

وحيث دخلت غالب الحدود العربية، يطالعك وجه موظف عابس مهمل كاره لعمله، وبلد تفوح منه رائحة الذلة والقلة والفوضى، يتنفس فيه المواطن المنكوب جزئيات الهواء معطرة برجال الأمن. ولعل أجمل اللحظات هي في الطائرة قبل الدخول، وما بعد الخروج  بالسلامة. وتبقى مغامرة الدخول مثل الولوج إلى غابة تعج بالضواري، «وعلي فعلا أن أعمل استثناء، شهادة حق أقولها إن دخولي قاعة الجوازات النظيفة المنظمة في المغرب راحة ومرحا وضحكة مع الضابط، حين أقول له: لقد تقدمت لنيل الجنسية الدكالية، فيعطيني ابتسامة عريضة، كذلك الطبيعة التي تذكر بالجنة وطرقات فسيحة دولية، مما يعطيني الأمل في العالم العربي من أقصاه الغربي».

أما في سوريا المنكوبة وفي بلد من هذا النوع لا يبقى وطن ومواطنة، أو روح انتماء، وحس دفاع، بل أسير يسكنه الرعب من رجال الأمن، يزورونه في اليقظة والمنام. أقصى أمنيات المواطن فيه الفرار من القضبان والخلاص ولو على يد الأبالسة، وهو ما يفسر سقوط بغداد السريع في ربيع 2003م.

وفي أرض لم تعد وطنا قد يصلح أن يكون مدفنا، لكن ليس للحياة بحال. فليس على الإنسان العربي إلا البحث عن وطن جديد، وهو مبدأ إبراهيم القديم الذي هاجر إلى ربه وجعلها وصية في عقبه. وحيث كان النمرود فر إبراهيم وقفز خارج الوطن الذي لم يعد وطنا بحال؛ فليس أجمل وأبدع من الحرية.

ما زلت أذكر لحظة دخولي مطار القاهرة أربعة مشاهد لا أنساها: ضابط كبير يذل ضابطا كبيرا إلى حد المسخ، وبمجرد تكلمي معه العربية لم يعد ينظر إلي. والثاني كثرة الوسخ من تراب، وبقايا أوراق في كل زاوية. هنا الإهانة للمكان بعد الإنسان. وحين خرجنا بعد طول انتظار، طارت حقيبة سيارة تسبقنا تنهب الأرض، حمدنا الرب على النجاة من حادث. أخيرا نار تأكل بناية وما من إسعاف، سوى رهط من الناس يتأملون النار. كان الوقت شتاء فهم يتدفؤون.

وفي عَمَّان من الأردن استولوا على جوازي الكندي، حيث قضيت يوما كاملا في ظلمات المخابرات بصحبة وجوه ممتقعة مصفرة خاشعة من الذل، فلا تسمع إلا همسا. وتمتعت يومها وأنا في الانتظار بقراءة «إيمانويل كانط»،  فحفرت أفكاره في ذاكرتي بأخاديد لا تنسى. فلما انتهت حفلة منكر ونكير، كانت وجهتي إلى المطار مباشرة على وصية لوط، ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.

استبدال الجنسية العربية بالأوروبية أو الكندية إذا تحصيل حاصل، فحيث الحبوب تهبط الطيور، وحيث الحريات تهفو القلوب، وحيث المال تهرع العمالة، وحيث الإنتاج المعرفي يذهب الشبان الطموحون للتحصيل المعرفي، وحيث الأمان يلجأ رأس المال، وحيث الضمانات يسعى عباد الله، فلا غرابة أن تسبح كندا في الرفاهية، وتتقدم بقوة إلى المستقبل، وترسخ فيها المؤسسات العلمية، وتبزغ شمس العبقريات.

وهذا الكلام ليس للدعاية لها فالناس تهجم على شواطئها، بأشد من التسونامي الذي ضرب سومطرة وتايلاند. ولو فتحت السفارة الكندية أبوابها في عاصمة عربية للهجرة بدون شروط، لهرع إليها الناس مهطعين إلى الداع كأنهم جراد منتشر.

ومقابل ذلك في عالمنا العربي تنقلب الجمهوريات إلى ملكيات، أطلقوا عليها جملوكيات فهي كائن (هبريد) لا جمهوري ولا ملكي ولا بين ذلك قواما عكس عقارب الزمن، وتخرج جماهير غفيرة فقيرة، بدون مناسبة، تصفق كالقرود، في مظاهرات تافهة، بحياة القائد إلى الأبد، ولا أبدية إلا لله العلي الكبير.

في كندا وفي جلسة القسم لنيل الجنسية كنا 82 شخصا من 32 جنسية مختلفة، وما زلت أذكر القاضية وهي تتحدث ببطء وبلغتين: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين، لا تفترقون عني بشيء. علموا أولادكم محاربة الظلم، وكل أنواع التمييز العنصري والجنسي والديني والعرقي. كان حديثها يذكر ببيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم نادت الحضور كل باسمه، فوضعت في يده الهوية الشخصية، مع مرسوم الحريات والحقوق الشخصية. ثم التفتت إلينا جميعا فقالت: والآن قوموا فسلموا على بعضكم البعض، فقد أصبحتم بنعمة كندا إخوانا. بكى معظم الحاضرين، وكان أكثرهم رجل فلسطيني احمرت عيناه من البكاء فهو كظيم.

نافذة:

استبدال الجنسية العربية بالأوروبية أو الكندية إذا تحصيل حاصل فحيث الحبوب تهبط الطيور وحيث الحريات تهفو القلوب وحيث المال تهرع العمالة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى