لكي تفعل النصوص فعلها وتؤدي وظيفتها
حين يقول القرآن على لسان الرسول (ص) إن قومي «اتخذوا هذا القرآن مهجورا» لم يكن هذا من فراغ. وحين يذكر القرآن «مثل الحمار» الذي لا يستفيد من كتب على ظهره ولو كانت مكتبة الكونجرس، نقف لتفكيك هذه الظاهرة عن تعطل عمل النصوص وكيفية تفعيلها؟
لكي تفعل النصوص فعلها علينا الدخول إلى حقل معرفي جديد من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها.
الأول: عمل الجهاز الكهربي، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة، كذلك يقوم العقل (النقدي) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع، أي أخذ النتائج، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي، فنتائج عملنا (جراحة الأوعية) فوري، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية، ونتائج جراحة البطن تظهر في مدى أيام، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض من الطعام لأيام، ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع، حتى يمد رجله ويحمل ثقله، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة، طالما كان العصب ينمو كل يوم بميليمتر واحد، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً، لا حيا فيرجى ولا ميتا فينعى.
كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين، ومع البشر عقوداً، أما التغيرات الاجتماعية، فليس عندنا من (مطل) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال (بانوراما ابن خلدون) أي الحقل التاريخي (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
الثاني: هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال (PUZZEL) فلا يمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر، فحتى تتشكل الصورة الشمولية (PANORAMA) التي تعطي للصورة منظرها البديع، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة.
الثالث: وكما أن الجهاز لا يشتغل بدون وصل قطعه بدقة، والصورة لا تفهم إلا بتضام أجزائها، كذلك لا يفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه؟! فالفيلم لا يفهم المغزى الخفي منه، والذي لا يعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال (حركة)، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء، كل قطعة تؤثر في التي بعدها كما تأثرت بما قبلها، وكل أحداث التاريخ يجب أن تفهم ضمن هذا الضوء الرائع.
نرجع إلى ابن خلدون الذي يقول رحمه الله في مقدمته: (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده).
وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا، في معنى العقل (النقدي) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار، والعقل (النقلي) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه، فهي لا تدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام، وحروفها الأصلية، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز، واللحم إلى (الحروف الأولى) في صورة الأحماض الأمينية، بعدها يركب الجسم ما يحتاجه وحسب الطلب، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة، أو إطلاق الطاقة من السكر. إنه يفعل ما يفعله (العقل النقدي) مع اللغة، فكلمة (فكر) تتكون من ثلاثة حروف، ولكن حسب نظرية الاحتمالات، يمكن أن تتشكل منها ست كلمات (فكر – كفر – فرك – كرف – ركف – رفك) بمعاني عجيبة، فالأول (فكر) عمل ذهني راق صاعد بالكينونة الإنسانية، والثاني (كفر) ضلال وشقاء، والثالث (فرك)عمل يدوي، والرابع (كرف: شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا؟!) والخامس والسادس (ركف + رفك) مبدئياً بدون معنى !! والعقل النقدي يتجه إلى كلمة (كفر) فيحيلها إلى (فكر وإيمان) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن.
كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي (BBB = BRAIN- BLOOD – BARRIER) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية، قد تخصصت في (النقد الذاتي) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كأحكم الحكماء وأعتى الدهاة، فهو لا يمرر كل مادة تدخل البدن، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد، ويتمهل في اتخاذ قراراته، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثوان، تحتاج إلى ستين ساعة، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية.
جاء في كتاب العقل البشري – تأليف جون فايفر – ترجمة م . عيسى ص 329 – 330 : فقد لاحظ (بول أهرلنج) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم، حقيقة فريدة من نوعها. لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون (الحاجز بين الدم والمخ) وهو مصمم بحيث يزود ما يعادل (1\8) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة. وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرضعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).
وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القارئ قطعاً، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية، وهي كيف يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع (العقل النقلي) إلى وضع (العقل النقدي)؟؟، وفي ضوء هذا فإن (جراحة الفكر) لا تقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها، لأن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً، بل انغلاقاً عقلياً، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية، فتحطم الأغلال العقلية، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس).
توجد في سوريا طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لا ينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به!! ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها؟؟ فلا ينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة !! قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي، لأن الرجل حبس من داخل عقله، وليس حقيقة بل وهماً، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ؟! ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لا تخلو منها أدمغتنا أحياناً؟؟