شوف تشوف

الرأي

لفهم الطبيعة البشرية

بقلم: خالص جلبي

سافر صديق لي قبل فترة وترك قطته عندنا في البيت، وكنت أعلم أن هذا القط أخذ من أمه ولم يكن زاد عمره على أيام، وعاش منذ ذلك الوقت مع البشر، لكنه كان قطا مثل باقي القطط، يأكل مثلهم، ينظف نفسه مثلهم، ويطارد الحشرات ويحاول ملاحقة الطيور، ولو وجد فأرا لانقض عليه مثل أي قط آخر؛ فالقط المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن تتفاوت طبيعتهما، والقط لا يخسر طبيعته عندما يعيش لوحده بمعزل عن قطط أخرى؛ في حين أن الإنسان المولود في ألمانيا أو ماليزيا لن يتشابها في التصرفات أو النظرة إلى الأمور، والطفل البشري لا يتعلم الإنسانية إلا بمعاشرته لأناس آخرين.
لماذا أتحدث عن الفرق بين الإنسان والقطط، أو الإنسان والحيوان عموما؟ الكل يتفق على أن هناك فرقا بين الإنسان والكائنات الأخرى، لكن النقطة التي تبقى موضع الجدل هي كيفية أو آلية الفهم بين الحيوان والإنسان؟ ولندخل في الموضوع مباشرة فلكي نفهم الحيوان نحتاج إلى معرفة بيولوجيا الحيوان، ولكن لفهم الإنسان لا تكفي الخريطة البيولوجية. ربما تساعدنا البيولوجيا في فهم وظائف الأعضاء كي نتمكن من معالجة الأمراض، ولكن البيولوجيا تساهم بشكل جزئي وبسيط في فهم الإنسان في جانبه الثقافي والاجتماعي.
فحتى نفهم الإنسان نحتاج إلى معرفة التاريخ؛ فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عنده تاريخ، فالقطط والنمل والنحل لا تتمتع بميزة امتلاكها التاريخ؛ فهذه المخلوقات لها غرائز تمشي عليها منذ ملايين السنين على وتيرة واحدة ونظم منسق، لا تعرف التحويل والتبديل، وربما كانت مجتمعات النمل والنحل متجانسة وذات إنتاجية أفضل بكثير من المجتمع الإنساني؛ إلا أنه مجتمع راكد ساكن بدون تطور عبر التاريخ؛ في حين أن الإنسان عاش في الكهف قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده، والمخلوق نفسه وصل إلى القمر قبل عدة سنوات؛ فالحيوانات تعيش بغرائزها وكأنها قطار على سكة الحديد لا يحيد، في حين أن الإنسان يخرج عن هذه السكة فيقفز منها ويطير عنها؛ فالمخلوق الذي يمشي على خط مرسوم له، ليس كالمخلوق الذي يشارك في صنع خطة، وهذه المشاركة هي أمانة الإنسان الكبرى التي أشار إليها القرآن؛ فالنمل والنحل والجبال والرياح اختارت أن لا تحمل هذا الثقل؛ فكل المخلوقات عدا الإنسان شاءت أن تسير وفق الخطة التي رسمت لها في الطبيعة، في حين أن الإنسان اختار أن يحمل أمانة ومسؤولية المشاركة في صنع خطته «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان».
التاريخ هو انعكاس لمحاولة الإنسان وهو يحمل الأمانة الثقيلة فيقع تارة وينهض أخرى، ينتعش أحيانا ويعاني أخرى؛ ففهم الإنسان يحتاج إلى معرفة مسيرة تاريخه المعقدة والمتشعبة، وإن كانت حديثة العهد نسبيا.
لماذا اعتبر هذا الموضوع جديرا بالبحث والاهتمام به؟ لأنه إن لم نعرف بعض الركائز التي يجب الوقوف عليها فلن نستطيع أن نفهم الإنسان، بل ولن نقترب من كيفية فهمه، وبالتالي فلن نستطيع المساهمة في حل مشاكلنا كمجتمعات وأفراد، وهذا بالتالي معناه أننا ما زلنا ظالمين لأنفسنا في اختيارنا لحمل هذه الأمانة الثقيلة.
والآن ما الفرق بين البيولوجيا والتاريخ… بين البشر والإنسان؟
ناقش المفكر الإسلامي علي شريعتي الفرق بين مصطلحي بشر وإنسان؛ فالبشر (كينونة) أما الإنسان فهو (صيرورة)، فقال إن جميع الناس متساوون في بشريتهم، أي في كونهم من جنس البشر، ولكنهم ليسوا متساوين في الإنسانية؛ لأن الإنسانية هي حالة من (الوعي) ولا تدل على جنس المخلوقات؛ فالكل يولد بشرا «أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا»، ولكن لا تعلمون الإنسانية؛ فالبشرية بيولوجية وتولد معنا، ولكن يجب أن نتعلم الإنسانية وهي مرتبطة بالحياة في مجتمع؛ فالطفل الذي لا يرى أناسا آخرين ويعيش معهم لا يدخل الإنسانية. ولتوضيح هذه النقطة سأروي لكم عن قصة (أفيرون الوحشي)، هذا الطفل المسكين الذي كان بشرا ولكن لم يعرف الإنسانية؛ ففي بدايات القرن العشرين وجد بعض الناس طفلا في إحدى غابات فرنسا في حوالي الثانية عشرة من عمره، ويبدو أن هذا الطفل ألقي أو ضاع في الغابة وعاش مع الحيوانات، ووجد فيه العلماء ثروة علمية لا تقدر، فأرادوا دراسته ومراقبة قدرته على تعلم الأشياء.
كان الطفل يمشي على أربع ولم يكن يعرف الكلام، وبعد جهود مكثفة انتصب قليلا، ولكنه لم يستطع تعلم اللغة بل تعلم بعض الأصوات، ولم يلبث أن توفي بعد أسابيع قليلة؛ فيبدو أن صدمة خروجه من محيطه قضت عليه؛ فهو لم يعد في محيطه الذي عاش فيه، ولم يعد يستطيع العودة إلى محيطه الذي عاش فيه، كما لم يعد يستطيع الدخول في المحيط الجديد.
هذا الطفل كان أشبه ما يكون بالحيوانات؛ فنحن نقول هذا لأننا لا نرى فيه صفات إنسانية، ولو نطقت الحيوانات لقالت هذا أسوأ من الحيوانات؛ فهو لا يعرف كيف يأكل أو ينظف نفسه أو يدافع عن كيانه، أما الحيوانات والحشرات فهي تعرف كيف تتصرف أينما عاشت أو ولدت، وربما يتساءل البعض إذن ما هي الطبيعة البشرية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى