شوف تشوف

الرئيسية

لغز عصر النهضة

بقلم: خالص جلبي

من يبحر في أوقيانوس «اليوتيوب» يصاب بدوار هو أشد من دوار البحر، بين ملحد وداعشي، ومدعي التنوير وسلفي، ومن يقول إن القرآن كتاب تناقضات كما جاء في ادعاءات رجل يحمل اسم المسيح، وبين من يطرح أسئلة ينفض بها الوعي الإسلامي، وبين مطلق للملة والديانة. وهو يذكرني بأمرين عصر الغزالي القديم، وكذلك وقتنا الحاضر، حيث يقفز إلى سطح «اليوتيوب» كما حدثني صهري عن كاردشان التي أعلنت فلحقها سبعون مليونا من الأنام، كذلك أطلعتني زوجتي المغربية على فتاة مغربية تزوجت ألمانيا فهي تنشر حركاته وسكناته وشركته، فيلحقها مليون من الأنام معظمهم مغاربة. إنها صدمة الحداثة كما نرى، ولكن عالم المودرن الحالي يدفعنا إلى التساؤل كيف ولد وتشكل؟
لا يزال سر عصر النهضة في أوربا محيرا، فما الذي يوقظ الأمم من سبات الجهالة؟
وأذكر أنه جاءتني في يوم رسالة من صاحب موسوعة «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، عبد الحليم أبو شقة، سؤال محدد: ما الذي يعين على إيقاظ الوعي عند الإنسان؟ وما هي الكتب التي تساهم في ذلك؟
ومنذ ذلك الوقت وأنا أنصح كل مهتم بالمعرفة أن يضع في بيته مائة إلى مائتي كتاب لا يزيد، تعتبر حجر الكبريت في إيقاد زناد المعرفة.
وأعترف أنا شخصيا أنني نشأت من أبوين شبه أميين، ولم يكن في بيتنا كتاب واحد، ولا أعرف من أين جاءني الشغف بالكتب، فلا يغادرني الكتاب حيثما حللت ورحلت كما قال الفيلسوف الإنساني (إيراسموس): «إن بيتي هو المكان الذي توجد فيه مكتبتي». وحاليا وأنا في صقيع كندا مريض مدنف، ولكن كتاب جواهر لال نهرو الهندي بجانبي بعنوان «من السجن إلى الرئاسة» أبحر فيه من آلاف السنوات حتى تشكل العالم الحالي، وما شدني إلى الرجل كتابه الآخر «لمحات من تاريخ العالم»، وكنت قد قرأته قبل ستين عاما حين كنت يافعا فما زال في مكتبتي فأعدت قراءته، ومن أيام أنهيت كتاب «رحلة الذهب» لمتى القاسح (متيوس هاردت) وهو من سلسلة عالم المعرفة رقم 466، وأنصح قرائي بشدة باقتناء سلسلة هذا الكتاب (عالم المعرفة الكويتية) فهو بثمن دولار واحد في المغرب.
مع هذا فكتب الفلسفة تستطيع أن تصف عصر التنوير (Renaissance)، الذي بدأ في منتصف القرن الخامس عشر، وما زالت أمواجه تكبر وتتدافع حتى اليوم، وكل طوفان الحداثة هو من ذلك البركان الذي تفجر من شمال إيطاليا ليغطي كل القارة الأوربية ثم العالم، بأنه جمع ما لا يقل عن عشر مزايا على شكل حلقة كل طرف يؤثر في الآخر على نحو متبادل عكوس.
فقد نشأ شيء اسمه (الفلسفة السياسية) في محاولة اكتشاف قوانين اللعبة السياسية مثلها في أوضح صورة كتاب «الأمير» لمكيافيلي.
وظهرت بدايات (الاتجاه الإنساني) الذي لا يعبأ بالقومية وقام بنقد النصوص الدينية، ظهر هذا واضحا عند إيراسموس وطوماس مور.
وتقدمت الفنون التكنولوجية، سواء في التعدين أو التنجيم أو نظام السقاية. وكانت أوربا لا تعرف الحمامات وتقتل الساحرات والقطط في الساحات العامة وتعالج السعال الديكي بلبن الحمير. وولدت المطبعة على دهشة من أوربا على يد (غوتنبرغ)، ومع الطباعة والورق تحرر عقل الإنسان كما يقول المؤرخ البريطاني (هـ. ج. ويلز) في كتابه «معالم تاريخ الإنسانية».
وبدأت عملية إحياء الدراسات الكلاسيكية في الآداب والفنون والفلسفة. ولأول مرة بدأ تداول أرسطو وسقراط وسينيكا وإبيكتيتوس بعد العصر الإغريقي ـ الروماني ولكن بنسخة معدلة.
ولأول مرة تبدأ العلوم في الانتعاش والتقدم على كل الجبهات في الطب أو الفلك أو الجغرافيا أو الكيمياء وعلم النفس والتاريخ.
فالمخترع (ليوناردو) يتنبأ بأشياء كالخيال من الطيارة والغواصة. وتتحول معرفة السماء من (علم التنجيم) إلى (علم الفلك).
وكما يقول المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في سفر كتابه «قصة الحضارة» إن عام 1543 كان عام العجائب ففيه تم خرق السماء والجسم والأرض؛ فرسمت الأرض بجغرافيا جديدة ولم يبق مكان لبحر الظلمات، ولأول مرة دار (ماجلان) حول الأرض الكروية بعد أن كانت شيئا نظريا متنازعا عليه.
وقلب (كوبرنيكوس) المفهوم الكنسي حول الأرض التي يدور حولها كل شيء، وتحولت إلى كوكب تافه في مجرة عملاقة في نظام شمسي لا نهاية لحدوده، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي باسكال:
«نحن نأتي من العدم ونطوق باللانهائي، ولا نعرف شيئا عن العدم الذي خرجنا منه كما لا نعرف شيئا عن اللانهائي الذي يغلفنا، كما أننا نمضي في النهاية إلى العدم من حيث خرجنا، فلا نبق شيئا مذكورا. وإذا نظرنا إلى أنفسنا في اللحظة الواحدة؛ فنحن كل شيء مقارنة بالعدم الذي خرجنا منه، ولكننا عدما بالنسبة للانهائي الذي يطوقنا، وهكذا فنحن نسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهائية بدون إدراك للطرفين وفهم للحافتين).
ودخل (فيزاليوس) بجرأة إلى تشريح الجسم بعد أن كان تشريحه حجرا محجورا، وعرفنا أن البدن آلة فيزيولوجية تعمل بقوانين مثل أي آلة مع فارق التعقيد، وبذلك دخل العلم إلى آلية الأمراض ومعالجتها على نحو انقلابي فتحرر الطب من الخرافة والسحر والشعوذة.
وغادر علم (الخيميا) ليصبح علم الكيمياء الحديث. وكان العصر عصر المغامرات والاكتشاف، ففي عام 1492م كان (عبد الله الصغير) يسلم مفاتيح غرناطة وتتحد إسبانيا وينطلق (كولومبوس) في رحلة إلى المجهول بأغرب من ارتياد المريخ هذه الأيام وأعجب ما فيه هي فكرة الوصول إلى الشرق من الغرب، مثل من يريد أن يدل على أذنه الشمال باليد اليمنى.
والذي دفع لهذا الضغط العثماني الذي قطع طريق التجارة إلى الشرق فأصبحت إسبانيا والبرتغال وظهرهما إلى المحيط ومنه جاء الخير، فأما البرتغال ففضلت تطويق العالم الإسلامي تسللا بجانب الشواطئ الإفريقية التي بدأها الأمير (هنري الملاح) عام 1418م، وأما (كولومبوس) فقد ضرب ضربته التاريخي فنقل الحضارة كلها من حوض المتوسط إلى الأطلنتي ووضع يد الغرب على أراض أكبر من سطح القمر.
ولكن أهم ما حصل على الإطلاق كان الإصلاح الديني الذي جاء منه الفتح المبين. ومن سبق مارتن لوثر كان الإنساني (إيراسموس) الذي كتب عام 1517م إلى صديقه الكاردينال يورك:
«في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك ثورة عظيمة توشك على الوقوع»، وفي أقل من شهرين وقعت ثورة مارتن لوثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى