لغة الإشارات تنوب عن الصياح بأعلى الأصوات
اطمئنوا. فلن أبعث إليكم بوزير خارجية يناوئ مصالح الولايات المتحدة الأمريكية!
قالها الملك الراحل الحسن الثاني مخاطبا مسؤولا أمريكيا رفيعا في جهاز الاستخبارات (سي. أي. إي) حل بالرباط لاستقصاء معلومات تشير إلى احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية، يكون المعارض المهدي بن بركة أحد وجوهها البارزين. لم يشأ أن يفصح إلى أين وصلت المشاورات التي ستجهض في منتصف الطريق. وطمأن الأمريكيين إلى الطريقة التي تجعلهم يتفهمون حاجة المغرب إلى الانفتاح على المعارضة، من دون أن يعني ذلك انتقالا إلى الضفة الأخرى.
وقتها كانت التسريبات ضئيلة، وكان الحسن الثاني يوعز إلى رجاله المقربين بإعداد تقارير إضافية أو مقتضبة عن المهام التي يعتزم المسؤولون الأجانب القيام بها، من قبيل امتزاج الرأي حول أسبقية انشغالاتهم، وماذا يريدون من المغرب بخصوص أي قضية مطروحة. وعندما أدرك أن الأمريكيين قلقون من احتمال انعطاف المغرب يسارا، على غرار أجواء التقليعة السائدة في العالم الثالث، قال كلمته تلك وأصغى بإمعان إلى تصورات الطرف الآخر الذي لم يكن يخفي تطلعاته.
نقل عنه القول في اللقاء ذاته إن نقاش النخب السياسية في البلاد حول القواعد الأمريكية، وترددها في ربط عجلة الاقتصاد الوطني بالتطورات التي كانت تعرفها البلدان الأوربية، قبل ميلاد الاتحاد الأوربي، يعتبر ظاهرة صحية، «لكن المغرب حرم على نفسه نظام الحزب الوحيد».
كان الحسن الثاني من المدافعين عن الغرب، ولم يتقبل معنى ألا يبادله الأصدقاء الذين كان يصفهم بـ «أعضاء النادي الغربي» المشاعر والالتزامات نفسها.. حتى أن «المكائد» الصادرة عن بعضهم كانت أشد شراسة من تناقضاته والمعسكر الشرقي. روى مرة أن الرئيس بريجنيف خاطبه بالقول وهو يرتشف كوب شاي ساخن: «لا تتوقع مني أن أعلم المزارعين السوفيات عادة شرب الشاي». وعلى الطرف الآخر كان المغرب يستبعد أن يصبح بلدا شيوعيا، فقد يتقبل وجود حزب شيوعي باسم ناعم، لا يغير من طباع وتقاليد عموم الناس.
لذلك عندما حان وقت محاورة الاشتراكيين والشيوعيين والليبراليين، لم تجد البلاد صعوبة في اختيار من يتولى هذه المهمة، من بين الزعامات السياسية، فقد ذهب علي يعتة يشرح لرفاقه في المعسكر الشرقي تطورات ملف الصحراء، وعاد أحمد عصمان إلى تقليد النقاش مع الأمريكيين منذ أن كان سفيرا لبلاده في واشنطن، وانفرد محمد بوستة بمخاطبة العالم الإسلامي ودول حركة عدم الانحياز، كما اتجه آخرون إلى إفريقيا موزعة الانتماءات. وكان من نتاج هذه الكيمياء المتجانسة في المواقف الوطنية، أن الجبهة الداخلية بدت متراصة ومتلاحمة لا تهزها الاختيارات الإيديولوجية المتباينة.
تجاوز المغرب التقسيمات الإيديولوجية، على حدتها في فترة الحرب الباردة. وعندما سئل الحسن الثاني إن كان يحارب الشيوعيين والماركسيين في الصحراء، رد بالقول إنه يدافع عن وحدة بلاده ضد أي نوع من العدوان، وإنه في طريقه لإبرام صفقة القرن مع السوفيات، في إشارة إلى معاملات تجارية طالت قطاع الفوسفات ومشتقاته، إذ تقفز التجارة عن المطبات الإيديولوجية وتستقر أمام المصالح المشتركة. وقبل ذلك كان المغرب أبرم في ستينيات القرن الماضي صفقات توريد أسلحة من موسكو، وظل وزير الدفاع آنذاك المحجوبي أحرضان يحتفظ بصورة نادرة تجمعه إلى كبار القادة العسكريين السوفيات. لكن خبراء مغاربة اهتدوا إلى طرق تقنية متطورة لإقامة شبكات الرصد عبر الطائرات، في وقت تحفظت فيه الإدارة الأمريكية عن تسليم معدات متطورة إلى المغرب، بمبرر أن استخدامها يجب أن يكون دفاعيا فقط.
هي لغة الإشارات تسود في إبلاغ المواقف، وحين رد الحسن الثاني بأن السلاح يوجد حيث المال الذي يدفع «بالكاش» من دون انتظار، انفتحت أسواق وعوالم. فالتجارة الوحيدة التي لم تخضع للميولات الإيديولوجية ازدهرت على نقيض الأفكار والولاءات، بيد أن ردد الحسن الثاني ردد، بهدف التخفيف من وطأة هذه التصريحات، أنه ذاهب إلى واشنطن لمناقشة ملفات سياسية واستراتيجية، وإن ليس مشروطا على رئيس الدولة أن يفاوض في صفقات الأسلحة، لأن هذه لها رجالاتها واختصاصيوها وقنواتها.
في الفترة ذاتها زار مسؤول فرنسي الرباط وسمع كلاما حول دور الجيش والمقاومة المغربية في دعم الحلفاء. وكانت الإشارة كافية لاستشعار حاجة البلاد إلى السلاح في مواجهة تحالف من نوع آخر، كان يغلب عليه الطابع الأحمر. إلى درجة أن بعض الجنود والضباط الأجانب الذين قتلوا في حرب الصحراء كانوا غير مختنين. ولم يتأخر الدعم كثيرا، فقد أدرك حلفاء تقليديون أن الغاية من حرب الصحراء إنما تروم فصل إفريقيا الشمالية عن امتدادها التاريخي. وأدركت دول غربية أنها ليست بعيدة عن الاستهداف، ضمن صراعات مراكز النفوذ في العالم.
توالت لغة الإشارات في التعبير عن المواقف، ففي أكثر من سابقة ارتدت المواقف الرسمية الصادرة عن المغرب حيال أزمات دولية، طابعا مؤسساتيا. ففي الساعات الأولى التي تلت الغزو السوفياتي لأفغانستان، اجتمع مجلس الوزراء للإعلان عن موقف الإدانة والاستنكار ودعوة الدب الروسي إلى الجلاء عن الأراضي الأفغانية، وكان لذلك الموقف أثره في حشد الدعم الإسلامي.
تكرر الموقف ذاته بعد الغزو العراقي للكويت، وكان أول موقف رسمي بالإدانة صدر عن مجلس وزراء ترأسه الملك الراحل الحسن الثاني بضع ساعات بعد غزو القوات العراقية للإمارة الخليجية الهادئة. ومن المفارقات في هذا النطاق أن حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقا) أدان الغزو، وذهب إلى حد دعم التحالف الغربي لإخراج قوات صدام حسين من الكويت. بدا وقتها للأمريكيين تحديدا أن حزبا شيوعيا في المغرب يميل إلى الواقعية والبراغماتية، وكان ذلك ضمن لغة الإشارات التي تنوب عن الصياح بأعلى الأصوات.