لعبة الغمامة
حسن البصري
في صباح أول أيام تنزيل قرار إجبارية جواز التلقيح للتنقل ودخول المرافق العامة، توجهت إلى مقر المقاطعة في حينا لإنجاز بعض الأغراض الإدارية، ووقفت أمام مكتب القائد في طابور يناقش مزايا وخطايا القرار. تأخر وصول القائد، وتطوع أحد الموظفين لتبرير التأخير نيابة عن رئيسه المباشر.
قال إن القائد يقوم بجولة تفقدية في مراكز التلقيح وفي بعض المرافق العامة، للوقوف على مدى تنفيذ القرار الحكومي الملزم لـ«باس فاكسينال»، ولم يحدد موعدا تقريبيا لعودة القائد من جولته. رد شاب أنيق الهندام وهو ينسحب من الطابور: «في يوم في شهر في سنة، تهدى الجراح وتنام».
من المفارقات الغريبة أنه لا أحد في هذا المرفق الإداري يطالبك بجواز التلقيح، علما أن القائد استيقظ باكرا وانتشر هو وأعوانه في أرض المقاطعة الواسعة لنشر دعوة «الباس فاكسينال». تراقصت أمام عيني وأنا أغادر المكان، صورة ممثل السلطة وهو يدخل مقر عمله ويكتشف أن دخوله متاح للجميع، وأن جواز التلقيح ليس شرط عين.
في مقر المقاطعة وفي سيارة الأجرة وفي الوكالة البنكية وفي المقهى نقاش عمومي حول الجواز، فيه عقلاء وفيه غلاة وفيه محللون يستحقون الانضمام إلى اللجنة العليا لليقظة الصحية. وأمام «السيبيرات» طوابير تبحث لنفسها عن تأشيرة عبور إلى مرافق الحياة العامة.
في زمن كورونا أصبح للوجه قناع نخفي وراءه ملامحنا، أملا في طرد الفيروس ووقف زحفه على خياشيمنا، لكن الوباء أتاح للبعض فرصة الاستمتاع بلعبة الوجه والقناع.
شارك سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة السابق، على حسابه الرسمي بـ«تويتر»، بيانا للمجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، بمجلس النواب، رافضا لقرار الحكومة القاضي بضرورة اعتماد جواز التلقيح لولوج الأماكن العامة. من يقرأ البيان يستغرب لسرعة تحول رئيس الحكومة السابق من داعم للقرارات الاحترازية إلى معارض، في أقل من عشرة أيام على مغادرة كرسي الوزارة.
حين تعلق العثماني بسلطة «تنعم بالديباج والحلي والحلل»، ضرب بقبضة يديه مدافعا عن الرخص الاستثنائية والنسخة الأولى والثانية من الحقن، وقال إن الثالثة ثابتة، وحين أصبح خارج التشكيلة تحول إلى «راهب صام لله وابتهل».
قال العثماني إن اعتماد جواز التلقيح يعد مرحلة انتقالية ضرورية قبل العودة بشكل نهائي إلى الحياة الطبيعية، «الوضعية الوبائية التي تتميز حاليا بالاستقرار وتسارع وتيرة التلقيح، يسمحان بفرض هذا الإجراء المعمول به في عدد من الدول». فجأة ابتلع الرجل لسانه، وسمح لزبنائه في عيادته النفسية بالولوج دون جواز التلقيح، فليس على المريض حرج.
هناك سوء فهم كبير لمفهوم المعارضة، فالبعض ما زال يعتبرها عصا في العجلة، والبعض يتعامل معها بمنطق تضاد الألوان، فيجعل الأبيض أسود والأخضر أصفر، استنادا إلى القول المأثور: «أنا أعارض إذن أنا موجود».
قبل أن يسقط القيادي التقدمي، نبيل بنعبد الله، في امتحان الانتخابات ويعجز عن ضمان مكانته في قسم الصفوة، كان الرجل يعتبر التلقيح شرطا لركوب صهوة المواطنة، فجأة وفي خلوة مع النفس الأمارة بالسوء، وقع على عريضة ضد فرض الحكومة لجواز التلقيح، قبل أن يتراجع ويقول إنه ليس ضد جواز التلقيح وليس ضد اللقاح، ولكنه فقط ضد التسرع في إصدار القرار، ودعا إلى فتح نقاش عمومي، علما أن التسرع الكبير يكمن في توقيع عريضة ثم العدول عن جرة القلم.
كثير من السياسيين يحتاجون إلى وقت أطول للاستئناس بالمعارضة، فإذا كنت مجبرا على الغضب حتى في المواقف التي تتطلب الابتسامة بدواعي «لقمة العيش» أو باسم الخط السياسي، فإنك تمارس لعبة «تعليب» المواقف وتلعب من حيث لا تدري دور شرير الشاشة المصرية، محمود المليجي، الذي لا يتردد في أداء أدوار الخير.
قديما حذرنا أحمد بوكماخ من مخاطر زمن آت، حين رددنا في الفصول الابتدائية بكورال جماعي:
هيا هيا نجري جريا/ غط البصرا وخذ الحذرا.