لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى نسي الغرب المنافق صورة الطفل السوري الميت مرميا على الشاطئ التركي. عندنا أيضا انمحت الصورة بعدما عاد المتضامنون من النزهة الشاطئية حيث التقطوا لهم صورا تذكارية وهم مضطجعون فوق رمال الشاطىء، بعدما حرصوا على تقويس مؤخراتهم قليلا حتى محاكين انتفاخ الجثث.
الغرب المنافق يتصنع الألم لرؤية طفل ميت مقذوف على الشاطئ ولا يؤلمه منظر بيت كامل ينهار وتهشم تحت أنقاضه أشلاء العشرات من الأطفال بسبب قذائف من صنع شركات أسلحتهم.
لذلك أنا متفق مع أنجيلينا جولي التي قالت إن الحل ليس في استقبال اللاجئين. فاللاجئون مكانهم الطبيعي هو بلدهم، والحل هو أن توقف أمريكا وأوربا وروسيا الحرب في الشام لكي يعود الهاربون إلى أرضهم.
وإذا كانوا غير مستعدين لإيقاف الحرب عليهم أن يتوقفوا عن الشكوى بسبب أمواج اللاجئين. فهم من تسبب في تشردهم وهم من عليهم إيجاد حل لهم.
أما اللاجؤون فمن حقهم أن يستمروا في اجتياح أوربا حتى يجبروا شعوب وقادة تلك الدول على وقف تسليح الانقلابيين والمعارضين المأجورين والثوار والجيوش التي تدعي التحرير.
أسقطوا دولا وأنظمة من أجل السيطرة على مصادر الطاقة ويشتكون اليوم من اجتياح اللاجئين لبلدانهم.
اللاجئون يقصدون الغرب وليس الشرق لأن الغرب بتبجح دائما بكونه ديمقراطيا ويدافع عن حق الشعوب في الديمقراطية، العرب لا يدعون الديمقراطية والقلة القليلة التي تصنع ذلك تقول إنها في طريق التحول الديمقراطي.
لذلك فهؤلاء اللاجئون يصدقون حكاية الغرب حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى حين يذهبون للعيش في الغرب فيكتشفون أن الغرب فعلا يحب الديمقراطية ويدافع عنها، لكن لمواطنيه، أما الشعوب العربية والمتخلفة فيستعمل هذا الخطاب الديمقراطي فقط لإخضاع حكامهم وابتزازهم لكي يتركوهم يستعبدوا شعوبهم مقابل أن يمنحوهم ما يريدون من خيرات.
ألمانيا من جهتها قالت إنها مستعدة لاستقبال 500 ألف لاجئ سنويا، ألمانيا ومعها أوربا تشيخ، لذلك فاليد العاملة السورية البخسة والمتعلمة ستضمن لعجزة ألمانيا تقاعدهم.
ما حدث في سوريا في نهاية الأمر طريقة ذكية لاستقبال مسيحيي الشرق الذين خصص لهم الإعلام الغربي حملة إعلامية خلال السنوات الأخيرة قدمهم كمضطهدين من طرف المسلمين.
لكن ما يجهله الغرب هو أن هؤلاء اللاجئين هم بذرة الإسلام في رحم أوربا التي ستورق بعد عشرات السنين. حكمة الله في إتمام نوره ولو كره الكافرون.
جاك أطالي، الذي يحترف بعض الكتبة عندنا سرقة مقالاته، قال في أحد مقالاته إن اللاجئين السوريين سيجعلون من أوربا القوة رقم واحد عالميا، مثلما حدث مع أمريكا عقب وصول لاجئي الحرب العالمية.
إنها تقنية ركل غار النمل الشغال لكي يخرج مذعورا وينتشر.
لكي نفهم مواقف الدول التي أصبحت عدوانية تجاه المغرب، مثل دول أوربا الشمالية، يجب أن نراقب الوضعية العالمية والمتغيرات الدولية، وخصوصا ما يحدث على الأرض في فلسطين، فالقدس هي البوصلة المحددة لوجهة العالم، ومن يتجاهل هذه البوصلة ستبقى نظرته تائهة وفكره مشوشا.
اليوم روسيا تضرب دولة البغدادي في سوريا، خالطة في ذلك فلول الجيش الحر وجيش النصرة.
إنها حرب بين أمريكا وفرنسا بالخصوص وروسيا، حرب تدار بالوكالة عن طريق جيوش متطوعة.
لفهم هذا الوضع الملتهب يجب قراءته على ضوء التقرير الأخير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكي «CIA»، الذي يتوقع تراجع الولايات المتحدة الأمريكية إلى المرتبة الثانية بعد الصين في أفق 2030، يجعل منه سؤالا آنيا وعلى درجة كبيرة من الأهمية.
الأخطر من تقرير وكالة المخابرات المركزية الذي يعتبره كل رئيس أمريكي بمثابة الإنجيل المقدس، هو التقرير الجديد الذي يتوقع أنه في 2060 لن يشكل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية في الدخل الخام للاقتصاد العالمي سوى 16 بالمائة، في الوقت الذي سيشكل فيه الاقتصاد الصيني 28 بالمائة من هذا الدخل، و18 بالمائة بالنسبة للهند.
هذا يعني أنه بحلول سنة 2060 سيكون ترتيب الدول العظمى حسب اقتصادها كالتالي، في المرتبة الأولى نجد الصين، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، تليها الهند، تليها البرازيل ثم روسيا.
وكما تلاحظون فلا أثر لأي دولة أوربية في ترتيب أقوى دول المستقبل، وحتى فرنسا التي بنت اقتصادها على استنزاف ثروات دول مستعمراتها السابقة، ستجد نفسها تراجعت من المرتبة الخامسة إلى العاشرة.
و«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، سيقول قائل، أين هي «الدولة الإسلامية» في هذا الترتيب؟
الدولة الإسلامية في العراق والشام التي أعلن عنها البغدادي في سوريا والعراق ليست هدفا في حد ذاته بل هي مجرد أداة، وعندما ستنهي مهمتها ستندثر وسيتبخر جندها، تماما كما حصل مع الأفغان الذين تحولوا بين عشية وضحاها في نشرات «سي إن إن» من مجاهدين إلى إرهابيين، عندما أرسل إليهم بوش طائرات «بي 52» لتدك مخابئهم في جبال «طورا بورا».
«داعش» هي الاختراع الذي تم زرعه في خصر العراق والشام، استعدادا لكي ينتشر ويتوسع على طول خريطة دول الشرق الأوسط من أجل محو الخرائط القديمة ورسم أخرى جديدة تزامنا مع الاحتفال بمرور مائة سنة على اتفاقية «سايس بيكو» بحلول 2016، لم تشارك في صناعته دولة واحدة، بل إنه نتيجة خلطة ساهمت فيها كل دول المنطقة إلى جانب القوى العظمى، بنصيب.
وبالنسبة لأمريكا فإسقاط نظام بشار الأسد يعني بالدرجة الأولى رد الصاع صاعين لروسيا في قضية أوكرانيا و«القرم» التي احتلتها روسيا سلميا.
فإذا كان بوتين قد اقتلع «القرم» من الاتحاد الأوربي وأبعده عن قواعد حلف الناتو الذي يحلم بوضع صواريخه تحت أنف القيصر بوتين، فإن أمريكا تحلم بانتزاع ميناء طرطوس السوري الذي يشكل الحدود الحقيقية لروسيا في الشرق الأوسط.
فهذا الميناء الضخم والاستراتيجي الذي يقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، يمنح روسيا وجودا دائما في المتوسط، ويمكنها بالتالي من القيام بعمليات في المحيط الأطلنطي وإرسال غواصاتها النووية، وهو الأمر الذي سيصبح مستحيلا لو قررت تركيا إغلاق معبر البوسفور في وجه غواصات روسيا القادمة من قاعدتها بأوكرانيا بالبحر الأسود والذاهبة نحو البحر الأبيض المتوسط.
وهنا يمكننا أن نفهم لماذا عدلت تركيا سنة 1982 اتفاقية الملاحة في البوسفور، بالشكل الذي يسمح لها بإغلاقه وقتما تريد، سواء ساعة الحرب أو السلم.
فإذا أغلقت تركيا معبر البوسفور في وجه الغواصات وحاملات الطائرات الروسية، وفقدت موسكو ميناء طرطوس بسقوط بشار الأسد، فهذا يعني إغلاق باب الملاحة في وجه الأساطيل الروسية الذاهبة نحو المحيط الأطلسي عبر الأبيض المتوسط.
بعبارة أخرى سيتم تحجيم روسيا داخل مياهها الإقليمية وسيتم نتيجة لذلك تقليص نفوذها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي انتزاع مخلب الدب الروسي من القبضة الإيرانية المهددة.
ولذلك فروسيا عندما تستميت في الدفاع عن بشار الأسد سياسيا في مجلس الأمن وعسكريا عبر دعمه بالسلاح وقصف مواقع «داعش» بالطائرات وعبر السفن الحربية، فإنما تستميت في الحقيقة دفاعا عن امتدادها وعمقها الاستراتيجي في قلب الشام، الملعب الذي تدور فوق أرضه «لعبة الأمم» منذ نزلت بها أول ديانة سماوية وإلى اليوم.
العالم إذن منشغل بتقسيم كعكة «سايس بيكو» الثانية، ولا أحد يبدي اهتمامه بتمزيق مفاصل فلسطين المحتلة، فقد تم رفع علم فلسطين أمام بوابة الأمم المتحدة في الوقت ذاته الذي انطلقت فيه خطط اقتحام الأقصى واندلاع حرب السكاكين.
وهذا بالضبط هو المطلوب، المزيد من الفوضى «الخلاقة» لإتمام مشروع التقسيم كما تم التخطيط له قبل مائة عام.