شوف تشوف

الرئيسيةشوف تشوف

لحم العود

نشر زميلنا محمد اليوبي تدوينة على صفحته بالفيسبوك يقول فيها ساخرا:

“اليوم اكتشفت أن ثمن اللحم أغلى من ثمن الكفتة، كيلو اللحم بـ100 درهم وخبزة عامرة بالكفتة بـ10 دراهم فقط.

يبدو أن الكفتة مدعمة من طرف مخطط المغرب الأحمار”.

فأعادتني هذه التدوينة ثلاثين سنة إلى الوراء عندما كنت طالبا في كلية الآداب بمدينة المحمدية.

كنت أكتري غرفة في بيت مشترك بحي القصبة العتيق وبما أن لحم العجل والخروف كان ترفا عزيز المنال فقد كنا نستعيض عنه بلحم العود، وقد كان بالقرب من القصبة محل يبيع لحم الخيول أو ما كنا نعتقد أنه لحم خيول بنصف سعر لحم العجل.

وكانت الوجبة عبارة عن لحم العود مفروم نكوره على شكل كرات صغيرة نضعها في مقلاة ونفقس فوقها بيضات بعدد الطلبة الذين سيتحلقون حول المائدة.

الحقيقة أن لحم العود كان يتضاعف حجمه عندما ينضج وكان يحتوي على كمية من الدم ليست في لحوم الحيوانات الأخرى التي تعودنا على أكلها. في ما بعد عندما بدأنا نذهب لصالات رفع الأثقال طمعا في كمال الأجسام اكتشفنا “دم العود” وهي كبسولات للشرب تباع في الصيدليات، ولم تكن دماء خيول في الحقيقة بل إن تسمية “دم العود” شاعت بسبب صورة ثور هائج ارتأى المسؤول عن التسويق في المختبر الذي يصنع المحلول أن يطبعها على علبة الدواء.

المهم أننا أدمنا على استهلاك كفتة العود طيلة سنوات الجامعة الثلاث الأولى، إلى حدود السنة الرابعة والأخيرة قبل الحصول على الإجازة، وكنت قد تخصصت في الشعر العربي الحديث. فساق إلينا القدر، أو اللعنة، طالبا يبحث عن غرفة فمنحناه مكانا “سرح” فيه “البونجة” التي ينام فوقها، وصادف أن كان والده جزارًا متنقلا في الأسواق فقلنا إن العناية الربانية ساقت إلينا من سيكفينا شر إنفاق منحتنا البئيسة على كفتة العود، وأن المعروف الذي صنعناه في هذا الطالب عندما قبلنا منحه اللجوء الإنساني معنا سيتكلف بجلب اللحم الذي يفيض عن الحاجة في محل والده الجزار.

وعندما رآنا نعد مقلاة كفتة العود بالبيض سألنا أي لحم نطهو فقلنا له إنه لحم العود، فضحك حتى كاد يستلقي على قفاه وسألنا بكم نشتريه. فقلنا له عشرين درهما للكيلو. فقال متهكما:

“فين عمركم شفتو شي لحم العود بعشرين درهم للكيلو؟”.

فبدأت الشكوك والظنون تتسلل إلينا ونحن ننظر إلى كواري كفتة العود تترتر في المقلاة، فسألناه وقد بدأت شهيتنا تنغلق: “وعلاه هاد الكفتة اللي كاطيب دابا ديالاش؟”.

نظر إلينا نظرة شفقة وقد فهم أن بيننا من إذا لم يأكل الكفتة قبل أن ينام فسيطيح بالهوايش، فهون من ادعاءاته محاولا إعطاءها طابعا حجاجيا لإقناعنا، وقال:

“العود الرخيص ساوي عشرة دلمليون عند الباردية ويبيعوه ليكم نتوما بعشرين درهم للكيلو، فكرو شوية راكم طلبة زعما”.

نظر بعضنا إلى بعض نظرة الجائع الذي اكتشف أن وجبته الوحيدة لذلك اليوم احترقت، فألقينا عليه تقريبا في وقت واحد السؤال المحرج الذي فكرنا فيه جميعا:

“على هاد لحساب هادي ثلث سنين وحنا كناكلو كفتة الحمار؟”.

خفف رفيقنا من محاججته وقال إنه ليس بالضرورة لحم حمير مفروم ما دأبنا على أكله طوال كل تلك السنوات، وإلا لكانت كبرت لنا آذان طويلة وأصبحت لدينا مكان الأقدام حوافر. وأضاف أن جزاري محلات بيع لحم العود تعودوا على ذبح الخيول المريضة وتلك التي هزلت بسبب النزيف المتواصل الذي يحدثه المنغاز وجر الكراويل، والتي يشترونها بسعر بخس. ولكي يضيف بعض البهارات لروايته أضاف أن هناك بعض المحتالين يذبحون الكياضر ويبيعون لحمها على أساس أنه لحم العود. أما الحمير فقال إنه ليس  لديه علم بمن يذبحها، وهذا لا يعني أن لحومها لا تباع، فأغلب باعة السندويتشات الجائلين يحشون الخبز بقطبان الصوصيط المصنوع من لحوم مفرومة لحيوانات لا يمكن التكهن بأصنافها.

لم يكن ما يشغل بالنا في تلك الليلة الباردة التي فتح فيها الله علينا بمعرفة أسرار وخبايا عالم الحيوان، وهي الأسرار التي لم تخطر حتى على بال الجاحظ وهو يخط مؤلفه الضخم “كتاب الحيوان” والذي كان عندنا مدرجا في مقرر الأدب القديم، بل إن شغلنا الشاغل كان هو:

“واش هاد المقلة ديال الكفتة بالبيض غادي ناكلوها ولا غادي نخرجوها ياكلوها مشاش القصبة؟”.

وهكذا انقسمنا إلى فسطاطين، ومقلة الكفتة الفائرة الشهية بيننا مثل غنيمة حرب علينا الحسم في مصيرها.

فكان جزء، والحق أنني كنت واحدا من هذا الجزء، يرى أن نفترض حسن النية في الجزار ونقول باسم الله ونلتهم الوجبة “ونوضو نركدو” كما لو أن لا شيء حدث، والواقع أن الأمر لم تكن له علاقة بحسن النية من سوئها بل بالجوع تحديدا. فيما جزء آخر ارتأى أن الوجبة ملغومة ويتعين الاستعاضة عنها ببراد شاي وخبز وزيتون أسود حائل يمكن أن يتسبب بالتسمم لكل من يأكله.

في النهاية وبسبب عضة ناب الجوع التي لا تقاوم حاصر الجميع المقلاة من كل جانب وغاصت الأصابع فيها تلتقط كرات الكفتة وتغمس الخبز في المرق إلى أن بقيت المقلاة قاعا صفصفا فتفرق الطلبة كل في ركنه وفي خيالهم تسرح خيول تشبه الحمير.

في صباح الغد جاءنا الطالب الوافد بمقترح يبدو أنه أنضجه ليلا على نار خبيثة هادئة، فقد أقنعنا بدفع مبلغ شهري له على أن يتكلف بتزويدنا بلحم العجل الطري المذبوح في الباطوار على يد والده الجزار. فقبلنا دون تردد ومنحناه مبلغ الشهر مسبقا وجلسنا ننتظر وصول الإمدادات.

وبالفعل أوفى زميلنا بوعده وجاء في المساء بأول كيلو من اللحم، وتكلف طالب بطهيه. مرت ساعتان والكوكوت تصفر إلى أن صمت آذاننا. وفي كل مرة يتفقد شرائح اللحم بالملعقة يجد أنه صار أكثر صلابة. مرت ساعة ثالثة فرابعة، فذابت الخضر ولم يبق وسط الكوكوت سوى قطع اللحم وقد تصلبت.

نظرنا جميعا نحو صديقنا متسائلين متى سنتعشى؟ وهل من أمل في أن ينضج هذا اللحم الغريب الذي جلب لنا؟

نظر إلينا نظرة من يوشك أن يصارحك بحقيقة مرعبة وقال:

“غير طلقو عليه العافية مزيان راه لحم الواليد وأنا اللي عارفو”.

اكتشفنا بعد فوات الأوان أن والد صديقنا لا يذبح سوى البقر الشارف الذي لا يمكن للحمه أن ينضج حتى ولو عرضته للهيب الشاليمو. والمصيبة أنه رفض أن يعيد إلينا التسبيق الشهري الذي منحناه له فطردناه عقابا له على خبثه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى