هذا العنوان لا يحيل على فيلم نبيل عيوش «لحظة ظلام» الممنوع في المغرب بسبب لقطاته الخادشة للحياء، بل يحيل على ما وقع في تطوان وطنجة عندما قررت الساكنة قطع الأضواء احتجاجا على ارتفاع أسعار الفواتير.
فهذا السلوك يدل على أن منسوب الوعي ارتفع لدى ساكنة هذه المدن، فعوض تنظيم وقفات ومسيرات احتجاجية ضد الشركة المزودة والتعرض لتفريق هذه التظاهرات بالعنف، فكر المتضررون في سلاح أنجع وغير مكلف من الناحية الأمنية وهو سلاح المقاطعة.
مما يعني أن تحولا مهما على مستوى السلوك الاحتجاجي لدى المواطن حدث، ويجب التقاطه.
درس إطفاء الأنوار في طنجة وتطوان، ودرس «الشوهة» التي خص بها مستعملو مواقع التواصل الاجتماعي العميد «الركايلي بوركابي» يكشفان عن قوة مواقع التواصل الاجتماعي في حشد الرأي العام وراء قضية معينة.
رأينا ذلك سابقا في قضية العفو عن غالفان وكيف أخذت صفحات «الفيسبوك» زمام المبادرة، ملغية الأحزاب والجمعيات والمجتمع المدني برمته.
نحن اليوم أمام جالية مغربية قاطنة في «الفيسبوك» تتواصل وتقرر وتتخذ الموقف المناسب أمام لوحة «آيباد» أو شاشة هاتف ذكي.
واليوم هناك أزيد من 94 بالمائة من المغاربة لديهم هاتف متنقل، حوالي تسعة ملايين منهم لديهم هاتف ذكي، فيما هناك حوالي 16 مليون مغربي لديهم حساب في «الفيسبوك».
مما يعني أن كل مغربي أصبح صحافيا مفترضا ناقلا للخبر والحدث والمعلومة من مكان حدوثها، يلتقطها بهاتفه ينشرها في صفحته يقتسمها معه الملايين.
الذين لازالوا يعتقدون أنهم بممارستهم الرقابة على الإعلام العمومي ومنع وصول الخبر إلى الرأي العام في وقته وبالصيغة الأقرب إلى الحقيقة، واهمون، لأننا أصبحنا نعيش في عصر رقمي مفتوح الجميع فيه يلتقط ويعمم ويعلق على الخبر بحرية وجرأة.
الإعلام العمومي، بالمقارنة مع ما وصل إليه المغاربة من انفتاح رقمي، يظهر كما لو كان منتميا إلى العصر الحجري، وأصحابه أشبه بأهل الكهف الذين لم يفطنوا بعد إلى أن ثورة رقمية وتواصلية تحدث على بعد أمتار من مدخل كهوفهم المظلمة والمحروسة.
والذين يعتقدون أن المغاربة لازالوا يقبلون التعامل معهم بمنطق «الحكرة»، واهمون أيضا، فالناس لم يعودوا يقبلون أن يتم تفريقهم بالعنف كلما نظموا وقفة سلمية للتعبير عن مطلب أو التنديد بوضعية.
ولذلك فكل سلوك عنيف أو حاط بالكرامة يكون المواطن عرضة له يتم تصويره ونشره في حينه في مواقع التواصل الاجتماعي، البرلمان الحقيقي للشعب.
وهناك سلاح فتاك أصبح يلجأ إليه مواطنو هذا الكوكب الأزرق المسمى «فيسبوك» هو سلاح السخرية، ويكفي أن نتأمل كل الصور والفيديوهات التي تم تركيبها وفبركتها لحادث ركل عميد الأمن لمواطنين احتجوا سلميا، لكي نفهم أن المغاربة فهموا أن أخطر سلاح لتحطيم الصورة المتجبرة لبعض عناصر قوات الأمن، هي تعريضهم للسخرية أمام ملايين مواطني كوكب «الفيسبوك».
لقد تحول «الفيسبوك» إلى ساحة للنضال والمقاومة والعصيان الاجتماعي، والسبب المباشر لهذا المستجد هو فقدان الثقة في كثير من المؤسسات الإعلامية وفي السياسيين وأحزابهم، وأخذ «الفيسبوك» زمام المبادرة للتنديد بوضعية غير مقبولة أو التلويح بمطلب في وسائط الاتصال الاجتماعية الحديثة التي تتجاوز الأحزاب السياسية ووسائلهم التقليدية والبدائية في الحشد والتجييش.
وغير خاف على أحد أن الماء والكهرباء يوجدان في قلب كل المطالب الاجتماعية للشعوب، واليوم أصبح هذان الهاجسان ورقتين انتخابيتين تستعملهما الأحزاب من أجل التنافس على السلطة.
والمشكل المطروح اليوم في المغرب بشكل عام، وفي طنجة وتطوان بشكل أخص، هو نفسه المطروح في إسبانيا، بحيث تعد حركة «بوديموس» بتأميم قطاع الطاقة بعدما باعته حكومة الحزب الشعبي لشركات خاصة، وأصبح القادة السياسيون للحزب أعضاء في المجالس الإدارية لهذه الشركات.
لعل أكبر محرض على الاحتقان الشعبي والاضطرابات الاجتماعية في المغرب هي شركات التدبير الأجنبية، التي فوض لها عمداء المدن ووزارة الداخلية تدبير الماء والكهرباء والتطهير السائل، فتحولت من شركات للتدبير إلى مصاصي دماء ينهبون جيوب المواطنين بفواتيرهم الشهرية الملتهبة.
عندما قلنا، قبل أربع سنوات، إن شركة «لديك» أصبحت تتحكم في صناعة الخريطة الانتخابية بالدار البيضاء، هددتنا الشركة بالمتابعة القضائية، وإلى اليوم لازال مفوض قضائي يأتي إلى الجريدة بحثا عني لتنفيذ الحكم الصادر ضدي لصالح «لديك».
مرت مياه تحت الجسر ولم نعد نحن وحدنا من يقول إن شركات التدبير المفوض تتدخل في السياسة الداخلية لمجالس المدن، وتتحكم في قرارات المصادقة على ميزانياتها من طرف مديرية الجماعات المحلية بوزارة الداخلية، بل عمدة سابق على طنجة اسمه سمير عبد المولى، اعترف بأنه تعرض للضغط لأنه رفض منح شركة «أمانديس» شيكا بقيمة 7 مليارات من أجل تسهيل المصادقة على ميزانية المجلس لسنة 2010.
وبسبب رفضه منح الشركة الفرنسية هذه الهدية الثمينة، تعرض لحرب شرسة من طرف سفير المغرب بباريس، الراحل مصطفى الساهل، الذي كان يقول إن عبد المولى سيخرب العلاقات المغربية- الفرنسية، وإن هذا التخريب سينعكس سلبا على دعم فرنسا للمغرب في ملف الصحراء.
وعندما نرى كيف ظلت «لديك» تماطل في دفع مبلغ 24 مليارا في ذمتها منذ 2008 لحساب مجلس المدينة بالدار البيضاء، واستمرت في بيع المواطنين مياه شرب تمر عبر 42 كيلومترا من القنوات الملوثة بالجراثيم، انتهت فترة صلاحيتها، وعندما نرى كيف تماطلت «أمانديس» في دفع 5 مليارات ونصف المليار سنتيم، التي في ذمتها لمجلس طنجة، نفهم أن هذه الشركات الأجنبية تستفيد من حماية غير قانونية، خصوصا أن شركات مغربية مساهمة معها في رأس المال.
واليوم عندما يقرر المواطنون، الذين يدفعون ثمن هذا التواطؤ من جيوبهم كل شهر، إطفاء الأضواء احتجاجا على هذه الشركات المتوحشة، فإن الجميع يجب أن يفهم أن الناس لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من النهب.
لقد مصت هذه الشركات، التي جلبها أزولاي وولعلو خلال فترة التناوب على افتضاض بكارة «الاتحاد الاشتراكي»، عندما كان الأول مستشارا اقتصاديا وكان الثاني وزيرا للمالية والخوصصة، ما يكفي من دماء المغاربة، وآن لها اليوم أن ترحل وتستعيد الدولة سيادتها على مائها وكهربائها وقطاع تطهيرها السائل.
فالسيادة الحقيقية هي امتلاك القرار في مؤسسات الطاقة ومؤسسات الاتصال.
وللأسف المغرب رهين شركة «سمير» السويدية- السعودية التي تؤمن تسعين بالمائة من حاجيات المملكة للمحروقات، ورهين لدى شركات الكهرباء الأجنبية التي تؤمن 95 بالمائة من حاجيات المغرب للكهرباء، ورهين لدى شركات الاتصالات التي تملك الإمارات فيها غالبية أسهم اتصالات المغرب، فيما تملك «أورانج» الفرنسية غالبية أسهم «ميديتل».
إن التحرر من قبضة هذه الشركات هو الاستقلال الحقيقي الذي سيمكن المغرب من بناء مستقبله بعيدا عن الابتزاز المالي والسياسي الذي تمارسه كبريات الشركات العالمية.