لحظة بين رمشتين..
كان الليل طويلا وموحشا على رجل مثلك.. اعتاد أن يقلب صفحات العمر.. حتى يجد الورقة الملائمة لحبر مزاجه..
كنت سيئا جدا وأنت تستجدي الحنان منهن.. مشوها كبقعة أرض منكوبة.. وكان يحزنني النظر إليك..
لم يكن عصيا عليك أن تلتفت قليلا لتراني.. لكنك المسافر منذ الأزل.. دون حقيبة سفر.. حاملا قلبك الذي أنهكه تكاثر العابرين عليه.. فصار هشا.. هشا بطريقة مؤسفة.. تسافر بعيدا.. أتأملك.. كبريائي كان متضخما جدا ليقتل بذلك كل تلويحات الوداع التي ذبلت على كفي..
أبتسم قائلة في سريرتي:
«ليس غريباً.. كان أمراً متوقعا»..
ذلك قد يخفّف حجم خيبتي بك..
كم كان يروق لك أن تزيّن لي الطرقات وتشذّب مخاوفي.. أن تقبض على كفي حينما بدأت قدميّ بالانزلاق ناحية الجرف.. وتضمني إليك.. بينما استحلتُ إلى عصفور حب أضاع الطريق.. أضعته رغم أن خرائط الغرام مخبأةٌ في جيبي..
لكني.. ككل النساء.. أحببت أن أوصد الأبواب وأسلمك المفتاح.. أضعتَ بدورك المفتاح غير عابئ ورحت تهرول لفتح الأبواب الموصدة.. يثيرك الغموض..
كنت آنذاك حنونا جدا.. بطريقة دفعتني للإيمان بك.. إذ كنت تكبرني بعقدين متكاملين.. وكنت أصغرك بعقود لا نهاية لها من الجرأة على طرق الأبواب والركض مسرعة.. تماما.. كما يفعل أطفال الحي عند الظهيرة.. لحظة ضجر..
أتساءل وأنا في منافي الغياب المتلاحقة.. أكان الله ليغفر لك كل هذه الخيبة التي وَشمتَ قلبي بها..؟
أعلم أن كل هذا الحزن إلى انتهاء.. فالموت قادم.. وما الحياة إلا لحظة بين رمشتين متتاليتين.. عليك فقط أن تتذكر كم كنتُ جميلة.. جميلة بما يكفي لتحسين ذاكرتك.. وتعديل فكرتك الخاطئة عن الحياة.. الرضا طريقة جيدة لإمضاء هذه اللحظة بالكثير من الثبات.. غدا سيفرغ مخزونك ومخزوني.. وننتهي إلى شجرة.. أو حفنة من طين في منزل مهمش.. أو فخارة لحفظ الماء..
فلماذا علينا أن نخاف الموت؟؟
لم يسبق وأن طارت من جهته ورقة تتحدث عن أمور مفزعة.. صمتُ الذين التحفوا بالتراب يقول إن الوسائد مريحة.. وإنه لا حاجة لهم بالقناديل..
لم يسبق وأن طلب أحدهم قنديلا.. جميعهم صامتون.. الصمت الذي يقول إنهم أُشبعوا بالضجيج.. ولم يعودوا في حاجة لهمسة تزيح عنهم ذلك الرداء الثقيل..
لا عليك.. يوما ما سيتبخر عطري بهدوء.. سيصعد بخفة إلى غيمة يبللها فتمطر مجددا على ذاكرة جافة فتنتعش..
فقط.. افتح يديك.. وتناول مفتاحك.. ستسقطه عليك ملائكتي.. وستعرف سر بقائك بيني وبابي..!