لبن المهرجانات وطقوس البهرجة
تقول الحكمة العربية القديمة: «في الصيف ضيعت اللبن»، كناية عمن لم يوفر الشروط الضرورية لاقتناص الفرص في أوانها، لكن على العكس من ذلك، فإن المغرب يحفل بالماهرين والشاطرين في جني لبن المهرجانات اللذيذ كلما حل فصل الصيف، حيث تسود البلاد بمدنها وبلداتها وحتى قراها أجواء احتفالية وطقوس البهرجة والفرح الموسمي، الذي يضبط على مواعد قارة مثل ساعة سويسرية لا تحتمل الخطأ أو التأخير.
وإذا كانت المواسم التقليدية العريقة تمتلك القدرة على إنتاح قيمة مضافة من حيث الرواج التجاري وتصريف منتوجات المنطقة، فإن المهرجانات التي تشهر هويتها الثقافية والفنية بعد تناسلها والتضخم الرهيب في عددها، ظلت عاجزة عن إحداث أية ديناميكية ثقافية في المناطق التي تحتضنها، فما أن تنطفئ أضواؤها حتى تعود دار لقمان إلى حالها.
خلال جذبة برلمانية تداولت في شأن المهرجانات، تمت الإشارة إلى أن حوالي 30 مليار سنتيم تصرف سنويا على المهرجانات التي فاق عددها 150 مهرجانا، دون احتساب مهرجانات ضخمة أخرى تم صرف حوالي 36 مليار سنتيم على دورة واحدة من أحد المهرجانات التي لا تدخل ضمن تصنيف المهرجانات الصيفية التي نتحدث عنها، والتي يتم تمويلها خارج أية مراقبة أو مساءلة من المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية، أو من الوزارة الوصية على الثقافة. وقال أحد المتدخلين خلال الجذبة البرلمانية ذاتها، إن «هناك بلديات تتنافس على تنظيم المهرجانات مع أن بعضها لا يتوفر على أجور موظفيها والعاملين بها»، مما يحيلنا على المثل المغربي: «آش خاصك آلعريان، مهرجان أمولاي!».
وقد لوحظ هذا الموسم الإقبال المحموم على تنظيم المهرجانات سواء «الموضوعاتية» منها أو ذات الطابع الترفيهي المحض، لكن إذا ظهر السبب بطل العجب، فأغلبها تزامن مع الموسم الانتخابي وتحول إلى حملات انتخابية سابقة لأوانها لا يطولها الردع القانوني مادام أنها تختفي تحت قناع الثقافة والفن، أو ترفع كمبرر التنشيط التجاري والاقتصادي أو الاحتفاء بالتراث الحضاري أو ببعض الخصوصيات المحلية والجهوية، مستغلين فراغا تشريعيا يقفز عليه البعض من أجل توظيف تظاهرات فنية من أجل انتزاع مقاعد داخل المجالس المنتخبة، مما يعني أن العديد من المهرجانات لم تعد سوى حملات انتخابية ممولة من المال العمومي ومن جيوب المواطنين أنفسهم دون استشارتهم، وهكذا نرى أن الوعود الحكومية في الرقابة قد تبخرت، فقد أعلن وزير وصي أن دعم المهرجانات بالمال العمومي سيكون مرهونا بدفتر تحملات، أي أن الرقابة البعدية على المصاريف سيتم تفعيلها، وهو مالم يحدث أبدا مما فتح الباب على مصراعيه على واقع الإفلات من المساءلة والمحاسبة والعقاب.
وشهد المغرب 150 مهرجانا سينمائيا كل سنة، وهو البلد الذي لا يتوفر اليوم سوى على 37 قاعة للعرض السينمائي على طول البلاد وعرضها.
وما يصح على السينما يصح على المسرح أيضا الذي لا يتوفر على اللوجيستيك الضروري، مما دفع بفرق مسرحية شابة إلى الإعلان بأنها ستقدم عروضها في الشارع العام ليس كاختيار فني أو نهج نضالي، ولكن بناء على أن للضرورة أحكاما، مادام واقع التفقير الثقافي والفني لا يرتفع، وإنما يتعزز بالبهرجة والأضواء الخادعة التي تشتعل بالصيف ليخبو بريقها طيلة باقي فصول السنة، ويبقى السؤال ملحا كيف تصرف الملايير على المهرجانات الموسمية ونحن عاجزون عن بناء قاعة سينمائية واحدة، أو تشييد مسرح واحد يستجيب للمواصفات المتعارف عليها عالميا في هذا المجال، حتى ولو كان مجرد «مسرح جيب» أو قاعة «سينما التجريب»، إذ لا يهم عدد المقاعد بقدر ما يهم إيصال المنتوج الفني إلى الجمهور في مدينته وبلدته وحتى في حيه، ألا يدفعنا هذا الواقع البئيس إلى أن نكسر قاعدة «شوف وسكت»؟.