تربى المغاربة على قصص فلكلورية وحكايات خيالية، من قبيل «عمي الغول»، «عايشة قنديشة» و«بوخنشة». أساطير تؤثث ذاكرة ومخيال الطفولة المغربية. غير أن أعظم الروايات الأسطورية كانت قصة كفاح آبائنا وأمهاتنا أثناء مسيرتهم التعليمية. من منا لم تتردد على مسامعه الجملة الشهيرة: «كنا نقراو على ضو الشمعة». ومن منا لا يتذكر ذلك البطل الشعبي الخارق، الذي كان يحضر لامتحاناته على شعاع الإضاءة العمومية الخافت، ليصبح بعد ذلك طبيبا ناجحا أو عالما فذا أو رجل دولة مخضرما. قصص بطولية تصور للناشئة كيف خاض آباؤهم جهاد النفس والبدن من أجل التحصيل العلمي. صحيح أن روايات نضال وكفاح الأجيال السابقة «زايدين فيها فيخرات»، لكنها لا تخلو من بعض الحقيقة. لقد ظلت المدرسة العمومية المغربية، لعقود طويلة، مؤسسة وطنية عظيمة ساهمت في تربية وتكوين أجيال من النساء والرجال، الذين أخذوا على عاتقهم شرف ومسؤولية بناء مغرب اليوم. حرصت فئة عريضة من الوطنيين المغاربة، قبيل الاستقلال، على تدريس أبنائها في ما كان يعرف سابقا بالمدارس الحرة، وهي مؤسسات تعليمية أنشأها رواد الحركة الوطنية، آنذاك، كرد فعل ضد هيمنة المستعمر الفرنسي على المشهد التعليمي في المغرب. إذ حرص المقيم العام على تأسيس مدارس البعثات الخاصة، التي استقطبت أبناء الجاليات الأجنبية وأبناء «المرفحين» المغاربة. لم تكن المدارس الوطنية الحرة غير النظامية مدارس «شكارية»، بل شكلت النواة الأولى للمدرسة العمومية المجانية في ما بعد. رحلت فرنسا وتركت خلفها شبكة أخطبوطية استعمارية ضخمة، كان النظام التعليمي أبرز أذرعها. ظلت مدارس «لاميسيون» الفرنسية النخبوية كبذرة السوء في أرضنا، تربت على يدها أجيال تدين بالولاء الوطني والثقافي والهوياتي للمستعمر. فشل المغرب في القضاء على «كونصير» المخلفات التعليمية الاستعمارية، ليصاب، بداية تسعينيات القرن الماضي، بمرض أشد فتكا من متلازمة «الكغواصون». لقد كانت سنة 1992 الانطلاقة الفعلية لـ«بزنس» التعليم الخاص، حيث حج أصحاب «الشكارة» من كل فج عميق بعد أن تبينت لهم «الهوتة» في تجارة العلم. تعتبر البنية التحتية القوية للتعليم حجر الأساس لنهضة وتقدم الأمم. يحظى التعليم الحكومي بمكانة مرموقة في دول العالم الأول، مثلا، لما تتوفر عليه تلك المؤسسات التعليمية الغربية أو الآسيوية، من أرضية تنظيمية صلبة ومناهج علمية متطورة. في مقابل مدارس التعليم الخصوصي، التي تعتبر ملاذا للطلبة الراسبين والمشاكسين، أو «ولاد الفشوش الباسلين»، ممن يدفع ذووهم أموالا طائلة لقاء حصول أبنائهم على ديبلومات صورية. تحافظ الآية على خط سيرها المستقيم قبل أن تنقلب فجأة في أحسن بلد بالعالم. لقد عرفت المدرسة العمومية تراجعا خطيرا أمام «البريفي» في العقدين الأخيرين. مردود هزيل ومشاكل تنظيمية بالجملة. بالمقابل نلاحظ أن المغرب أصبح مرتعا خصبا للوبيات المدارس الخاصة. لوبيات قوية أنهكت جيوب المغاربة وهدمت ما تبقى من أطلال المدرسة الوطنية الحرة. لصالح أية جهة تتم محاربة المدرسة العمومية؟ ومن المستفيد من تدهور جودة التعليم الحكومي في بلادنا؟ صحيح أننا نعيش في عالم رأسمالي يقوم على قانون العرض والطلب. عالم يرتكز اقتصاده على السوق الحر. «كلها ينش على كبالتو». فنحن ندفع المال مقابل المسكن والملبس، والتطبيب والتأمين على الحياة والموت، فلمَ لا ندفع مقابل تجربة تعليمية مرفهة، تكون كلماتنا الأولى فيها بلغة موليير وكتاباتنا المبكرة بلغة شيكسبير؟ ونضمن من خلالها شهادات علمية «بريستيجية» نتباهى بها أمام العقارب.. عفوا الأقارب. ظل «البريفي»، إلى وقت قريب، حكرا على الطبقة الغنية وفوق المتوسطة، إذ حرصت هذه الشرائح الاجتماعية المخملية و«السومي» مخملية على توفير بيئة تعليمية راقية لأبنائها، بعيدا عن «روينة ربعة فالطاولة. ونص الطون والحرور» كوجبة غداء. ناهيك عن تلك الأستاذة التي تتحدى قوانين البيولوجيا، ليمتد حملها طيلة سنتين أو أكثر. انتقلت عدوى التعليم الخاص إلى الطبقات «الحرشة» التي تعيش على «الكريدي ودارت والكارني». لقد شعرت هذه الفئة العريضة من المغاربة بما يشبه «الشمتة» بعد أن أصبح التعليم في المغرب يسير بسرعتين متفاوتتين. لا تقتصر ظاهرة «البريفي» على الصراع المشروع لضمان مستقبل أفضل للأبناء، بل أصبح «البريفي» صراعا وجوديا يختزل الحرب الطبقية غير المعلنة الدائرة رحاها بين المغاربة. لقد أصبحت «لاميسيون» حظوة اجتماعية و«عياقة ثقافية» يتسابق للظفر بها المتسابقون. طالت مظاهر «المضاربة» الطبقية العديد من سبل الحياة، لعل أبرزها أسلوب عيش الناشئة أو نظامها الغذائي مثلا. لا يكتفي البريفي بتحميل أولياء الأمور ما لا طاقة لهم به من مستحقات شهرية ومستلزمات مدرسية، بل إن «لايف ستايل» طلبة المدارس الخاصة يحتم عليهم القيام بأنشطة مدرسية موازية، من قبيل الباليه والرسم، والسباحة والعزف على البيانو. «الله يرحم أيام ماكنت كنلوح الشكارة فالسطوان باش نتفرج فكابتن ماجد». ظاهرة «لاميسيونية» جديدة اكتسحت وبشدة الساحة الدراسية في المغرب، ألا وهي ظاهرة «لانشبوكس». نستطيع القول إن «لانشبوكس» متحور خطير لما كان يعرف سابقا بـ«المرقة فخبيز»، إذ تتفنن الأمهات المغربيات في تحضير ما لذ وطاب من المقبلات والسلطات، والوجبات الرئيسية والعصائر والحلويات، «لبعلوك» يقل وزنه عن 15 كيلو غراما، بل ويعاني من فقدان الشهية المزمن.
