كيف يتم استعباد الناس؟
في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وقف خروتشوف يتساءل: كيف يتسنى لشخص واحد مثل ستالين أن يتحكم بمصائر ملايين البشر ويرسل إلى الموت مليون شخص من أوكرانيا فقط؟ ليست المشكلة في تعطش فرد لسلطة لا نهائية، ولكن كل المشكلة كيف تركع الجماهير لآلهة كاذبة؟ ما هو سر هذا السحر وكيف نفك طلسمه؟
لعل أفضل من حلَّل ظاهرة (المرض الاجتماعي) هو مالك بن نبي حينما وجه نظره إلى (الاستعداد) كتربة جاهزة لانغراس جراثيم المرض، وبذلك قام بإنجازين هامين في الفكر العربي؛ أولاً في نقل المعركة من الميدان السياسي إلى الثقافي، وثانيا نقل الصراع العربي الاسرائيلي من جوهري إلى هامشي؛ فالمرض العربي قاد إلى الاختلاط (Complication) الصهيوني.
قاد مالك بن نبي بتحليله إلى قلب ترتيب الأولويات عندما اعتبر (القابلية) للاستعمار تشكل وضع (امتصاص) وبذلك وضع تشخيصاً بارعاً لمرض الحضارة الإسلامية. فظاهرة «القابلية للاستعمار» تشكلت في وقت مبكر تحت قباب القيروان ودمشق وبغداد قبل أن تزحف جيوش الاستعمار لاحتلالها. هذا المرض هيأ للتفسخ الداخلي قبل الاجتياح الخارجي، وهو الذي يفسر تسلط الديكتاتوريات وبزوغ نجمة داوود.
نحن لم نتحرر بعد من هذا المرض الذي يسري كالروماتيزم الخبيث في مفاصل ثقافتنا، وانقلاب الربيع العربي إلى برد الشتاء هو من ذيول هذا المرض الخبيث.
يعتبر القرآن كتابا متفردا في طرح مصطلح لم يعتده الناس تحت عنوان (ظلم النفس) لأن الناس اعتادوا أن يلوموا كل شيء إلا أنفسهم، وبذلك قام القرآن بتوفير الطاقة لدفعها في المسار المنتج. المشكلة ليست بعدم وجود عناصر خارجية تفجرها، ولكن القطاع الفعلي الذي نتمتع بالتحكم فيه هو عالمنا النفسي، وليس عندنا إمكانية لدخول المشكلة إلا من بوابته، وبتعطيل هذا المسار يتعطل حل المشكلة فلا يرى الضوء.
طرح القرآن (ظاهرتين) لعلهما أهم الأمراض الإنسانية قاطبة (علاقات القوة) بين المستضعفين والمستكبرين، ومشكلة القصور التي واجهت (آدم وإبليس) وتحديد الموقف منها؛ فلم يدخل إبليس طريق اللعنة واللاعودة إلا عندما اعتبر نفسه مبرءاً من الخطأ وأن (الله) هو الذي أغواه (بما أغويتني) في حين أن آدم وقف هو وزوجته يعللان سبب السقوط بقصور داخلي (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا) كمنهج صحيح في مواجهة المشاكل.
إن المشاكل ليست فيها تحديداً بل بموقفنا منها، فلا تعود مشاكل بل تحديات لاستنفار الجهد فهذا المنهج يدفع نحو تراكم الخبرات.
عرض القرآن مسرحية (الظالمين) على أنهم شريحتان تتقدم الأولى حاملة لواء (المستضعفين) قبل ظهور مجموعة المنتفخين المستكبرين، تماماً مثل الفيلم بأصله الفاحم (NEGATIVE) الذي تستخرج منه الصور الإيجابية زاهية الألوان.
المستضعفون هم تربة إنجاز وتفريخ طبقة الطواغيت المستكبرين، وهي كما نرى مشكلة ثقافية قبل أن تكون سياسية.
هذا القلب في التصور يصبح نظرية كوبرنيكوس اجتماعية؛ فلم تعد الشمس تدور حول الأرض، ولم يعد الحكام يفعلون ما يشاؤون، ولا يعني قلب أنظمة الحكم الدخول إلى العالم السحري الفجائي لتغيير الأوضاع، لذا طرح القرآن نظرية تغيير ما بالنفوس كأساس لتغيير الأوضاع (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
في عام 1562 كتب (أتيين لابواسييه) في شرح آلية الطغيان أن الطاغية يقف على رأس هرم محفوف بنظام متدرج من ستة من الأشخاص يزينون له ما يفعل (أو ربما تسعة كما جاء في محكم التنزيل في سورة النمل (الآية 48) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. يوجهون بدورهم 600 شخص أو 900 لا ندري، في شبكة عصبية ممتدة إلى ستة آلاف أو ستمائة ألف، بحيث يفعل الطاغية ما يفعله الدماغ من إفراز كيماوي بسيط من جرعة النانوغرام كي تنقل له الشبكة كل الأخبار، وتحرك كل العضلات وتفرز كل الهورمونات.
ويقترح (لابواسييه) ترياقاً ضد هذا السم الاجتماعي، يقوم على سحب الطاعة فقط؛ فلا يمكن لأي ديكتاتور أن يستمر في الحياة، لو أن الناس جلسوا في بيوتهم، ولم ينزلوا إلى العمل ويتعاونوا معه، ولكن الأمر يحتاج إلى ثلاثة شروط: (وعي متألق) و(تنسيق محكم) و(تضحية لا تعرف الأثرة)، لذا يخاف كل طاغية من رائحة أي تنظيم، ويتمنى بل يدفعه إلى أن يكون سرياً لا شرعياً، أو عنيفاً مسلحاً؛ فيتم اصطياده باللاشرعية، ويقطع رقبته بكل سهولة وراحة ضمير.
من هنا كانت دعوة الأنبياء علنية وجماهيرية وغير مسلحة (لا عنفية)، أما الحركات السياسية في العالم العربي في معظم شرائحها فتفرح بموت أو اغتيال الحكام، وعندما ينطفئ هذا اللهيب من قلوبنا؛ فلا نفرح بموت حاكم أو اغتياله و(لا نفرق بين أحد منهم) ملكاً كان أم جمهورياً (بالأصح جملوكيا)؛ نكون قد بدأنا سيكولوجياً نمشي سوياً على صراط مستقيم.
ليس من الضروري قتل الباطل، بل ممارسة العصيان المشروع فقط، ولو فعلت المعارضة هذا لخرج كل المجتمع من عنق الزجاجة بأقل الضحايا.
تكفي ممارسة العصيان بعدم التعاون معه والرضوخ له، ولكن مشكلة الإنسان أنه يعتقل بأوهامه ويمكن أن يسحر ويسترهب بسحر عظيم؟
ما جاء به الأنبياء هو محاولة تحرير الإنسان من هذا الوهم وتحرير العقل المعتقل، وهذا هو لب التوحيد الذي يقوم على إنكار كل الآلهة قبل الإقرار بالله العزيز الحميد.
يتساءل (برتراند راسل) في كتابه (السلطان) عن الشهوة البشرية؛ كيف يكون الفرد نبياً أو حتى إلهاً؟ إنه مشروع قائم، وهي متعة لذيذة خفية وشهية، وما يمنع تحققها وقائع ساحقة ماحقة، من مرض قاتل، وموت مدمر، وشيخوخة قاهرة، في شواهد على أننا بشر فانون (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون).
لا يستطيع كل إنسان تدشين ديانة جديدة مع طموحه لذلك؛ وكل إنسان عالم قائم بذاته يعتبر نفسه أعقل الناس طرا، كما يرى أنه لا ينقصه شيء ليكون أعظم الفلاسفة أو أهم الأنبياء المرسلين، ويذهب الغزالي في كتابه (الإحياء) أن أعظم اللذات في الحياة هي (التسلط) لأنها من صفات الألوهية، كما أن الدين يراهن على هذا (الترانزستور) المغروس فينا من نفخة الإله، وإلا ما معنى أن يغرينا بجنة الخلد كصفة إلهية.
ولعل آخر ما يسحب من قلوب الصاحين هي روح التسلط والعلو في الأرض والشعور بالتميز كما يقول المثل: (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة) وهذا يفسر أحد الأسباب الخفية المسيطرة للصراع السياسي بين الشرائح الاجتماعية، ومن أجل هذا جاء الأنبياء لكسر احتكار الألوهية البشرية، واستنبات مجتمع محرر من علاقات القوة؛ فلا يوجد مستضعفون أو مستكبرون، وهو ما فعلته الديموقراطية حاليا.
لو أن أي زعيم غربي حالفه الحظ فحكم بلداً عربياً لاعترف بدون ذرة تردد أن جده العاشر كان من يعرب أو قحطان؛ فكرسي الحكم في العالم العربي ممتع لذيذ إلى أبعد الحدود، لا تراقبه لجنة ضرائب، أو مجلس شيوخ، ولا تطاله يد محاكمة في مساءلة.
كما أن العكس صحيح لو أن حاكماً عربياً قفز به الحظ ليصبح رئيس دولة غربية؛ فلسوف يتحول في فترة قصيرة من إله إلى إنسان، في شاهد صاعق على ما تفعله الثقافات في البشر. ثقافتنا تنتج عبيدا وآلهة، في مستنقع لم يجفف بعد، تفوح منه الروائح الكريهة، ويعج فيه البعوض وتسرح فيه الحشرات وتمخر فيه الضواري إلى أجل غير مسمى.
ذكر (لابواسيه) في كتابه العبودية المختارة، أن أهل اليونان أرسلوا رجلين إلى بلاط ملك الفرس فاستضافهم الحاكم الحدودي؛ فأطعمهم إلى ما فوق الشبع، وأكرمهم إلى ما فوق الضيافة، وقال لهم ألا ترون هذه النعمة التي أسبح فيها، وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تعقلون؟ وتنضمان إلى عبيد مولاي الملك؟
نظر الرجلان القادمان من ثقافة سقراط وقالا له: لك الحق أن تقول ما تقول، ولنا الحق أن نرفض كل ما تقول؛ لأن نعمة الحرية لم تذقها بعد، ولو ذقتها لرميت كل ما عندك، ولقاتلت عن الحرية بأظافرك وأسنانك؟!
نحن نثرثر بكلمات الديموقراطية وننسى ثلاثة أمور: وعيا جماهيريا يصلح أساساً لصناديق الاقتراعات، ومثقفا ملتزما بقوة الحقيقة، قبل حقيقة القوة، وقد تحرر من الخوف والإغراء، وودع ثقافة الكذب وامتهان منبر وعاظ السلاطين، وأخيراً توديع للعنف بكل أسبابه؛ فلا تجتمع الديموقراطية مع العنف، إلا عندما يمتزج الماء مع النار؟ وليس لهذا من سبيل إلا بإطفاء النار بالماء أو تسخين النار للماء وبينهما برزخ لا يبغيان.