كيف ولد الكون؟
بقلم: خالص جلبي
في ظلام الليل البهيم والهواء البارد يداعب الوجنات وينعش الصدر، نظرت في السماء حيث الهدوء العميق يعم، والجلال يسيطر، والسلام مستتب، وأمام عيني وعلى امتداد البصر وفي عمق السماء من أقصاها إلى أدناها، وكان وعاء من اللبن قد اندلق في كبد السماء. ففرش الأفق بالآلاف التي لا تنتهي من النجوم، وقفت أتأمل مجرة درب التبانة وكأنها القوس العريض الذي يوجه قبة السماء. أمنا الحنون ومجرتنا التي ننتسب إليها، وتضمنا بين جناحيها، وقفت أتساءل ما هذا الكون الذي نعيش فيه؟ من أين جاء وإلى أين ينتهي؟ ما طبيعته وما مصيره؟ كيف انفجرت الحياة على سطحه في هذا التنوع البديع؟
جئنا إلى الحياة بغير رغبة منا وتصميم مسبقين، وسوف نودعها بغير حب أو تخطيط مبرمج. ما هو هذا العدم الذي خرجنا منه إلى الحياة؟ ما هي هذه اللانهاية المحاطة بالأسرار. والتي نندفع باتجاهها بكل قوة فنغيب في أحشائها ضيوفا على الأبدية بدون عودة ولا خبر؟
هل لهذا الكون من بداية؟ هل له نهاية؟ وماذا كان قبل البداية؟ وكيف كانت البداية؟ كلها أسئلة اشتغلت بها الفلسفة قديما وما زالت. إلا أن العلم الحديث، وخاصة الكوسمولوجيا أفادتنا بمعلومات جديدة ومثيرة في هذا الصدد.
ديناميكية الكون
وقف أينشتاين في إحدى الليالي المثيرة مرتعبا لا يكاد يصدق ما ترى عيناه، خلال الغابة الكثيفة من المعادلات الرياضية التي تشق الطريق فيها، عبر رموز ودلالات لا تنتهي.
فماذا كان هذا الشيء المثير والمزلزل الذي قادت إليه سفن المعادلات؟ وما هو نوع الشواطئ التي رست عليها؟ وأي نوع من الجزر ألقت مراسيها تجاهها؟
لقد رست بعض المعادلات هذه المرة على معلومة مفادها أن الكون في حالة (ديناميكية) وليس (إستاتيكية)، أي أن هذا الوجود الذي ننتمي إليه هو في حالة تطور وتمدد وانتفاخ، وليس في حالة ركود وتماسك وثبات.
كانت معلومة انقلابية وجديدة على الفكر الإنساني، وتولدت عبر المعاناة مع الدغل الكثيف المخيف من تعانق الغابات الاستوائية الفكرية، حيث حرارة الفكر ووهج المعادلات الرياضية.
هذه الحقيقة الانقلابية كانت تخالف كل الفكر الإنساني السابق، في ثبات الكون، وتماسك أركانه، ودوران أفلاكه، عبر نظام دقيق ومدارات واضحة، لقد رسى الفكر هذه المرة على شاطئ كنز فكري جديد بانتظار البشرية، إلا أنه كما في هذه القصة المسلية، حيث مات خمسة عشر رجلا من أجل صندوق، فإن أينشتاين ارتكب أعظم خطأ علمي في حياته، كما اعترف هو نفسه بعد ذلك.
شعر أينشتاين أن العالم الذي يقف عليه يتزلزل، والأرض التي تحمله تميد من تحت قدميه، فأسرع يحاول إدخال التماسك على هذا العالم المنهار، ويدخل ما يمكن لهذا الخرق في سفينة التصور العقلي القديم لإنقاذ العالم القديم من الغرق.
يقول أينشتاين إنه بدأ برفع معادلاته التي مشت لوحدها، بمنطقها الخاص، وولدت نتيجة (تمدد العالم) فأدخل كوابح خاصة، اخترعها لإيقاف هذا المسلسل، وهكذا أدخل ما يسمى (الثابت الكوسمولوجي) وبذلك أدخل الفرامل التي منعت تزحلق العالم في هذا الجليد الكوني، الذي لا يعرف إلى أين سيأخذ العالم باتجاهه.
في الوقت نفسه كان رجل أمريكي قد لجأ إلى الجبال ينظر في النجوم هو (إدوين هابل)، يرتعب من حقيقة شبيهة بتلك التي انفجرت بين حلقات المعادلات الرياضية، تلك التي كان أينشتاين يتعامل معها. وكانت الحقيقة الجديدة هذه المرة، تنفجر بين الأكوام التي لا تنتهي من النجوم التي يتأملها العالم الفلكي الأمريكي (هابل) بصبر وخشوع عبر آلاف الأعمال التي لا تنتهي، وآلاف الساعات من العمل، في الليالي الطويلة الممضة والممتعة بآن واحد، وهو يتأمل هذا السكون الأبدي، وهذا الامتداد السرمدي.
كان المنظر الذي خشع له قلب (إدوين هابل) واقشعر منه جلده وهو لا يكاد يصدق أيضا، وعبر الوسائط العامية التي اجتمعت مع التراكم العلمي السابق في تطوير رؤية حركة الأشياء، عبر طيف الضوء الذي ينبعث منها، وهو ما عرف بظاهرة (الزحزحة الحمراء).
وفي الوقت نفسه وفي صقيع روسيا المتجمد عكف رياضي صبور، من نوع مختلف، هو (ألكسندر فريدمان) يقطف ثمرات النظرية النسبية، التي وصلت إليها البشرية عبر التألق العبقري من خلال أعمال فريتزجيرالد ولورنتز وبوانكاريه، والتي كان لها علاقة باكتشاف سرعة الضوء على يد فيزو، وإلغاء فكرة الأثير بواسطة تجربة ميكلسون ومورلي، وختاما بالفتح العقلي الذي انفتح أمام عبقرية أينشتاين. (تجربة ميكلسون ومورلي عام 1881م في كليفلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، وتم خلالها قياس سرعة الضوء في كل الاتجاهات مع اختلاف الأمكنة والأزمنة والطقس. وكانت النتيجة أن سرعة النور واحدة، وبالتالي تم إلغاء فكرة الأثير التي استحوذت على عقل الفيزيائيين لفترة طويلة، والتي جعلت البعض يصل إلى حافة إعادة النظر في نظام كوبرنيكوس للكون برمته).
قام ألكسندر فريدمان بهمة لا تعرف الكلل بصقل المعادلات الرياضية في النسبية العامة، وفي زاوية دافئة هاربا من برد روسيا الذي لا ينتهي، وثلوجها التي لا تنقطع، جلس بعقل بارد منظم، يولد معارف جديدة من هذه المعادلات، ووصل في النهاية إلى نقطة هي أشبه بالثقب الأسود الفكري، هي النقطة الغريبة العجيبة و(المتفردة)، حيث يقف العقل أمامها حائرا متأملا خاشعا لا يكاد يصدق أو يتصور!
كانت المعادلات في حديها تصل إلى نقطتين، كل حافة منها هي أعجب من أختها، فالبداية في النقطة المتفردة (singularity) والنهاية في تمدد الكون، وبين البداية والنهاية نسب وثيقة، وصلة محكمة، وتماسك مدهش.
تمدد العالم
ما هي النقطة أو الحقبة (المتفردة) التي وصلت إليها معادلات أينشتاين، وتطويرات فريدمان، ولاحقا كشوفات هابل، إنها كما اختصرها كتاب «العلم في منظوره الجديد» على الشكل التالي:
«فعالمنا إذاً قد تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة، ويشير حجم التمدد ومعدل سرعته الحاليين إلى أن الكون بدأ منذ ما يتراوح بين 12 و20 مليار سنة (آخر الأرقام تدور حول 13,7 مليار سنة) وفي جزء من السكستليون من الثانية (واحد مقسوم على عشرة قوة 36)، وفي البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيرا من الحيز الذي يشغله بروتون واحد، وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال، تصور أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئا، وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق، وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة، وينبغي ألا نتصور أن الانفجار أحدث تمددا في المادة في مكان قائم بالفعل، فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان، وهذا يمكن أن نتعقله، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال».
ضغط الآبائية
لماذا تراجع أينشتاين عما قادته إليه معادلاته هو بالذات ليدخل (الثابت الكوسمولوجي)، وليفرمل زخم المعادلات، وليقع بهذا الخطأ المصيري، كما اعترف هو بالذات بأنه أشنع ما فعله في كل حياته العلمية؟
إنه ضغط المسلمات والعقلية الآبائية، عقدة السلف والتقليد المستحكم، وإنا وجدنا آباءنا على أمة.. هذه بعض من الحجب التي تقف بين العقل والحقيقة، بين القلب والله، بين العلم وإدراكه.
لا غرابة إذاً عندما نسمع عن الصراع الذي نشب بين إبراهيم وقومه، بشأن الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكل مبرراتهم عن عبادتها أنهم وجدوا آباءهم عليها عاكفين، حتى لو كانت لا تضر ولا تنفع، وكان من شدة تمسكهم بها وحرصهم عليها، استعدادهم للموت من أجلها، بل وحرق من يمسها، كما فعلوا مع إبراهيم عليه السلام، فألقوه في النار حيا، ولكن لا تستطيع ألسنة النار أن تلتهم الحقيقة، كما لا يستطيع دخانها أن يخفي جوهر الكون، وهكذا خرج إبراهيم عليه السلام من النار حيا كما دخلها حيا.
هذا المطب الذي وقع فيه أينشتاين حصل نظيره مع العالم الألماني (أوتو هان)، الذي كان أول من كسر المسلمة اليونانية الثانية في العالم الأصغر، بعد أن كسرها أينشتاين في العالم الأكبر، وحاول جبر صدعها، ولم شعثها، فأصيب بالرعب أيضا، أمام مخالفة ضغط المسلمات لألفي سنة من الفكر الإنساني، وهو يستقرئ نتائج قذف نترون على ذرة يورانيوم، وهو أن الذرة يمكن أن تتجزأ، بعد أن كانت (الأتوم) التي تعني في اليونانية الجزء الذي لا يتجزأ. وهكذا أصبح العالم الأكبر والعالم الأصغر على يدي أينشتاين وإدوين هابل وألكسندر فريدمان من جهة، وعلى يد أوتو هان وإنريكو فيرمي من جهة ثانية، عالما آخر، وشواطئ للمعرفة جديدة، وخلقا مستحدثا، ونشأة لم تعرفها البشرية قبل ذلك.
أصبح العالم الصغير يفتح أبوابا جديدة، ويصغر أكثر فأكثر كما أصبح العالم الكبير يتمدد ويتوسع أكثر فأكثر، وكأن اللانهاية تنتظر عند الحافتين، وتغلف الحدين، وتمسك بقطبي الوجود.
ولمعرفة المزيد من تفاصيل هذه القصة المثيرة والممتعة، فعلينا أن نتناول بالتفصيل ظاهرة الزحزحة الحمراء والوقود النووي والنسبية وعلاقة الطاقة بالمادة، وهو ما يحتاج إلى شرح خاص.
إنه ضغط المسلمات والعقلية الآبائية. عقدة السلف والتقليد المستحكم، وإنا وجدنا آباءنا على أمة.. هذه بعض من الحجب التي تقف بين العقل والحقيقة، بين القلب والله، بين العلم وإدراكه.
لا غرابة إذا عندما نسمع عن الصراع الذي نشب بين إبراهيم وقومه، بشأن الأصنام التي لا تضر ولا تنفع