حتى ندخل دنيا العقلانية لفهم النصوص القرآنية، فبين أيدينا ثلاثة أسئلة ملحة حول طوفان نوح.
الأول: هل ضرب الطوفان كل الأرض؟ بما فيها القارات السبع ونيوزيلندا حتى الأنتراكتيس (القطب الجنوبي بمساحة 14 مليون كلم مربع)، أم كان محدودا في بقعة من الأرض، حيث طغى الماء (فحملناكم في الجارية) بتعبير القرآن؟
الثاني: ثم كم كان حجم السفينة؟ وهل اعتمد نوح القار (الغودرون بتعبير المغاربة)، والمسامير (تقنية الحديد لم تنشأ حتى القرن الثامن قبل الميلاد)، كما جاء في ذكر النبي داوود (وألنا له الحديد)؟ والقرآن يذكر بدقة كلمة دسر = من سورة «القمر» (حملناه على ذات ألواح ودسر)، وهي ليست الحديد (فهل اعتمد نوح القار والألياف)؟ أي متى حدث ما حدث؟ فهذا السؤال الثاني.
الثالث: وأخيرا هل يعقل حمل كل دواب الأرض، حتى تماسيح النيل وفيلة الهند، أم ما كان متوفرا في بيئته؟ وكلمة (من كلٍ) تبقى مجازية تحمل على: ليس كل الدواب والحيوانات، بل المتوفر ويصلح للرحلة المصيرية. ثم متى عاش نوح في سلسلة النبوات؟ وهي في آدم تفهم من البوابة الأنثروبولوجية وتمتد مئات الآلاف من السنين، ثم نوح وهو ما قبل التاريخ (Prehystoric)، ثم إبراهيم وموسى مع اختراع الكتابة ودخول التاريخ (كما جاء في القرآن عن صحف إبراهيم وموسى).
وتهدف العلوم الحديثة إلى الدخول إلى الحقل المعرفي على نحو مختلف فهي لا تريد (استنطاق النصوص)، بل تريد (حديث الطبيعة)، أي النزول إلى الواقع واستنطاق الأرض، لعلها (تحدث أخبارها) عما جرى لها في فترة الأحقاب السابقة. وهذا الذي حصل، فاليوم تعمد التكنولوجيا الحديثة مع بقية العلوم إلى قراءة طبقات الأرض، فهي تشكل نصوصا غير قابلة للتزوير أو التبديل، كما أن تفسيرها لن يذهب في (محاولات لغوية عقيمة)، كما هو الحاصل مع حاوي السيرك «الشحرور» الشامي، صاحب كتاب «القرآن والكتاب قراءة معاصرة»، الذي يخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء؛ فالكلمة عنده تعني كل شيء أو لاشيء. وهي مسألة قديمة تعرض لها الفيلسوف «فيتغنشتاين»، حين اعتبر أن اللغة لا تزيد على لعبة (language is a game). بل سيتدخل علم دراسة الزمن من خلال تقنية الكربون 14، لمعرفة عمر أي شيء يتم العثور عليه (حتى 57000 سنة)، أو تقنية (الآرغون البوتاسيوم التي تسبح في الزمن حتى المليارات، حين حدد عمر الأرض بـ4.6 مليارات سنة). كما أن علم الرسوبيات سيعرفنا بطبيعة التقلبات التي حدثت في المنطقة.
إن قصة الطوفان بين أخذ ورد لم تهدأ معركتها حتى اليوم، فمنذ القرن الثاني للميلاد ذهب الفيلسوف «آبيليس APELLES» الروماني إلى أنه لا يمكن حمل كل الكائنات على ظهر سفينة، وحمولة أربعة فيلة كافية لقلب توازنها؛ فكيف بكل المخلوقات التي تضمها الطبيعة؟ هنا ندخل علم المجاز، فكلمة احمل فيها من (كلٍ) زوجين اثنين كما أسلفنا لا تعني حيوان اللاما من جبال الأنديز والكانغارو الأسترالي.
أما «ثيودوريت THEODORET»، أسقف كريت من القرن الخامس للميلاد، فقد سمح لعقله بالحركة في اتجاه مختلف، فقال: أمام هذا الماء الذي غطى الأرض كلها، كيف تسنى للتربة بعد ذلك أن تصرف هذه الكمية الخرافية من المياه؟ يجيب القرآن: (قلنا يا أرض ابلعي ماءك)، وهو ممكن لطفرة مائية في منطقة محددة.
كان كلاهما يذهب إلى محاولة فهم أن الطوفان لا بد أنه كان محدود التأثير جرى في منطقة محددة من الأرض؛ فلم يعم الأمريكتين وأستراليا وجزر العالم أجمعين.
كما لم تتحدث الحضارة الفرعونية عن شيء من هذا القبيل، مع أنها كانت تستقبل فيضان كل عام بالفرح والتضحية بفتاة حسناء.
أما «جيوردانو برونو» فقد عمدت الكنيسة إلى حرقه في ساحة عامة، بسبب آرائه، وكان منها أن عقله لم يستوعب غضب (يهوه) عندما أغرق كل البشر، مع أن هناك مجموعات لا علاقة لها بالصراع الذي نشب بين نوح وقومه.
وبالمقابل، فقد اعتقد الجيولوجي «إرنست تولمان ERNST TOLLMAN»، من فيينا، جازما أن نيزكا ضرب الأرض في عام 9545 قبل الميلاد، هو الذي قاد إلى الطوفان.
وذهب إلى أبعد من هذا الجيولوجي الهاوي «رون يات RON WYATT»، فزعم أنه اكتشف سفينة نوح في جبل «أرارات Ararat» في أرمينيا، وعندما ذهبت البعثات العلمية للتأكد من الكشف، لم يكن في الواقع إلا تشكلا في الصخر، أخذ شكل بقايا سفينة لا تؤكد زعمه.
أما المحرك الفعلي للدراسة العلمية الحديثة، فكان سببه ما اكتشفته سفينة الأبحاث الروسية «أكوا ناوت AQUANAUT» في الثمانينيات من القرن الفائت، عندما خرجت على العالم بتقرير مثير للجيولوجيين مفاده أنها عثرت على عمق 95 مترا قبالة القرم في عمق شاطئ البحر الأسود الشمالي على بقايا من حلزونات وقواقع وأصداف ورخويات لا تعيش في المياه المالحة في العادة، كما أن طبيعة الأرض التي يعلوها البحر المالح هي أرض تعود إلى طبيعة زراعية كانت تتدفق فيها مياه حلوة.
وفي عام 1997 م خرج كل من الجيولوجيين الأمريكيين «والتر بيتمان WALTER PITMAN» و«ويليام ريان WILLIAM RYAN» على العالم بنظرية جديدة، تشرح سيناريو الطوفان من منظور جيولوجي مختلف عن قصة البحر الأسود الحالي وكيفية تشكله؛ فهو قبل 7500 سنة كان بحيرة حلوة غنَّاء أصغر حجما من البحر الأسود الحالي، تحيط به شعوب عديدة، بكثافة سكانية أتقنت فن الزراعة، وبنت صوامع الحبوب الأولى، أو ما يسميهم علماء ما قبل التاريخ (صناع السراميك)، ثم حدث انقلاب جيولوجي مرعب، غيَّر طبيعة البحيرة السوداء إلى بحر أسود مالح، من خلال طوفان مهول، فاق كل تصور، وختم على مصير الشعوب الزراعية الأولى التي أحاطت البحيرة على طول شواطئها، عندما تفجرت عتبة البوسفور الصخرية التي تشكل السد أمام المياه القادمة من المحيطات، لينطلق السيل العرم بعنف لا يمكن تصوره، إلا إذا مضى بنا الخيال لتدفق بحيرة كاملة تصب يوميا فوق البحيرة السوداء أسفلها، بضغط يفوق 200 مرة عنف شلالات نياغارا، ولتنشأ ظاهرة (طفطفة) البانيو عندما يفيض بالماء، وليطوي الفيضان في لجته شعوبا شتى.
خالص جلبي