كيف نبني العقل النقدي؟
بقلم: خالص جلبي
الحزبي أعمى أيا كان من أي فصيلة وملة، وكل حزب بما لديهم فرحون، ومن أراد الطهارة والصفاء العقلي عليه توديع حزب الشيطان وحزب الرحمن، والدخول في دين الإنسانية، كما فعل سقراط ومحمد صلى الله عليه وسلم وسبينوزا وإيراسموس وإبكتيتوس والمسيح ومارتن لوثر وغاندي وعبد الغفور خان وجودت سعيد.
يمتاز العقل النقلي بثلاث صفات (تمرير الأفكار) بدون مناقشة، و(تكرارها) بدون تمحيص، و(تبريرها) بل والدفاع عنها حتى الموت.
فبالأولى يتحول العقل إلى (وعاء) يضم (كما) فوضويا من الأفكار بدون نسق معرفي (الإبستيمولوجيا).
وبالثانية تتشكل الدوغمائية لأن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك، والإصرار عليها والتصلب عندها مهما تبين خلافها، وهي في القرآن مرض الآبائية فهو أفضل تعريف لها.
وبالثالثة تتشكل (العقلية أحادية الرؤية) المريرة، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص، مبني على الراديكالية (التطرف)، فالوجود أبيض أو أسود، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير، معنا أو ضدنا، كما زعم بوش في حربه على الإرهاب، أو بتقسيمات الآخرين إلى فسطاطين كفر وإيمان!
والنشاط الإنساني يقوم ليس على تحرير العقل، بل اصطياد الاتباع، وبناء حلقات الدراويش الجدد، فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة، ويزداد التقليد، يشتد التعصب، ويتعمق اتجاه العنف، ويتحنط العقل، ويتوقف النمو، ويتعطل التطور، وتصبح الحياة مستحيلة؛ بسبب تشكل طريق ذي اتجاه واحد لا مجال فيه للمراجعة، فلا غرابة أن يتحول المجتمع (كمونياً) إلى ما يشبه الحرب الأهلية المبطنة، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية في حالة عداء مع الآخرين.
العقلية النقلية تسبح بين (الاطمئنان البارد) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة، و(كراهية الآخر) المارق.
ومع الكراهية تتبرمج (الحرب) سلفاً، لأن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد.
أما العقل (النقدي) فيقابل المعطيات السابقة، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على (تنقية وغربلة) الأفكار القادمة من العالم الخارجي، كما تقوم على (تأمل) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي.
وطالما قامت بوظيفة (المراجعة الدؤوبة) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي، وأداة وعي حادة، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ.
ولأنها تحولت إلى نظم (تردد – FREQUENCY) يشبه سريان التيار الكهربي، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة، والحياة مثل (الطريق السريع) ذي اتجاه مزدوج، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب؛ لأن جوهر الحب مشاركة، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر، فالعقلية النقدية سلامية، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين.
هذا التكوين (الطفلي) للعقل له آثار اجتماعية مدمرة، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر!!
أما إذا ملك الشباب ليس (الكلام والفتوى) بل السلاح؛ فنماذج (كابول) والصومال والجزائر والعراق جاهزة، فلا يُتْعب أحدهم ذهنه؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد، وأنه قد يكون (مخطئا) لا أكثر، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم (يُكَفِّرون) ومن عادة أهل العلم أنهم (يُخَطِّئون).
ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض (الخطأ)، أو الطريق للحرب عندما تفترض (الهرطقة).
إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى، مصيبة مرض (الآبائية) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة، فما لم ينكسر التقليد لا يبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة، فضلاً عن الإبداع، وما لم يتخلص العقل من ضغط البيئة، عند مواجهة الكوارث والمصائب، بتحرير منهج (الشك) فإنه لن يصل إلى شاطئ اليقين، لأن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج، والعقلية النقلية لا ترى ربطاً بين الأمرين، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة، فلا صدفة في الكون ولا عبثية.
وعندما تحدث الأغلاط؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث؛ فإذا انهدمت بناية، أو مات مريض، أو توقف جهاز عن العمل، أو حلت هزيمة عسكرية أو تردي اقتصادي، أو نكبة حضارية، فيجب أن نفترض أن خطأً ما قد حصل، وليس لأن قوى لا نعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه، وهذا مبدأ قرآني (قل هو من عند أنفسكم).
ينكفئ العقل (النقدي) على الذات ليكتشف العالم الداخلي، لأنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي (الذات)، فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون (جمعا) للأشياء خارجيا، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها، وهو ما هدف إليه القرآن في (التزكية) فزحزحة النفس من عالم (العفوية) وعدم المراجعة، أو بتعبير القرآن (الأمَّارة بالسوء) إلى عالم (الانضباط) والمراقبة، أو بتعبير القرآن (اللوَّامة)، فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ(اللوم ) وليس لوم (العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع، فدخل عالم (الطمأنينة) القرآنية (رضي الله عنهم ورضوا عنه)؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس.
إن الحاسة (النقدية) التاريخية التي تمتع بها (ابن خلدون) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني، فالأخبار بعد اليوم لا تكتسب صحتها ممن رواها، بل باستنطاقها هي بالذات، ومن خلال (الواقع) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على (الواقعات)، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها، أياً كان كاتبه ومصدره، والسر سهل وبسيط، لأن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها، في حين أن وجود (الصخرة) و(واقعها الذاتي) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لا تنتهي، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها، والأرض تحدث (بأخبارها) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها، والهياكل العظمية التي (تنبش) في صحراء عفار بالحبشة تقول إنها أصبح لها ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين.
والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته، وكيف وضع نفسه في هذا العالم، واللغة هي ترميز للأفكار، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل، أي أن اللفظة لا تشع بالمعنى، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى، والفرق كبير بين الأصل والفرع، بين السبب والناتج عنه، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي (اللفظ) كي ترتديه، وهذا المعطف قد يأكله العث والتغيرات عبر العصور والأزمنة، وهو ما انتبه إليه ابن خلدون بحدق. هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ، مثل الحصان والعربة، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه.