بقلم خالص جلبي
حتى يمكن فهم أين يقف العلم اليوم لابد من معرفة كيفية بدئه؟ فكل علم له بداءات أولية، وتشكلات جنينية. كل حدثٍ هو نتيجةٌ لما قبله وهو بنفس الوقت سببٌ لما سيأتي بعده، فهناك علاقة جدلية بين الأحداث، وهناك ترابط محكم بين الوقائع.
في هذا البحث سوف نستخدم المفهوم القرآني لاستجلاء التطور العلمي في ضوء وقائع التاريخ وأحداثه. (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)… فلنحاول تأمل خلق العلم.
بينما كنت أتأمل جدران قصور غرناطة في رحلاتي المتكررة إلى اسبانيا لفت نظري تكرر عبارة (لا غالب إلا الله) منقوشة في الجدران بشكل واضح مكرر لا يضل في قراءتها أي قاريء للغة العربية، فسرح بي الخيال في محاولة (استنطاق) لهذا النص وخلفيته المعبِّرة.
كأن الشعور استولى عليهم أنهم يُهزمون ولكن (وللتعويض) في وجه خصومهم الذين قهروهم وبقوا في أرضهم القرون الطوال، يجب أن يقولوا إن الذي يهزمهم ليس خصمهم بل (الله) الذي لا طاقة لأحد به ولا قدرة. إذن كان حلاً نفسياً مريحاً، ولكنه الترنح قبل الهزيمة النهائية، والطرد من شبه الجزيرة الإيبرية، وإبادة من بقي فيه رائحة من بقيتهم.
كل هذا بدأت قصته بشكل مبكر، أبكر بكثير مما يرويه الحجر الميت، الذي كنت أقرأ فيه بقايا هذه الكلمات (لا غالب إلا الله).
أذكر جيدا حين كنت مع صديقي المقيم في إسبانيا نمر بالسيارة بجنب مدينة (رويال ثيوداد ROYAL CIUDAD ) سألته عن المدينة متجاهلاً هل تعرف عن تاريخها شيئاً؟ فأجاب بالنفي! قلت له لا تذكر علاقتها بالتاريخ أبداً؟ كرر بالنفي! فكرت في نفسي: إننا أمة نُكبت مرة أخرى لأنها لا تعرف أفظع شيء مرَّ عليها!!. رحمة الله عليك سفيان!
قلت له إن المؤرخ (محمد عبد الله عنان) كتب موسوعة كاملة عن تاريخ المسلمين في الجزيرة، وجاء بنفسه إلى هذا المكان قريباً من هذه المدينة ونبش في أرضها، بل واكتشف في بعض الحفر بقايا (رؤوس رماح وأنصال) من آثار أخطر معركة تمت في هذا المكان في عام 1212م الموافق 609 هـ.
ولكن ما لنا وللقصة الآن. دعنا لا نستبق الأحداث، ولنكشف اللثام عن صفحة سوداء من النكبة العلمية في تاريخنا، بل وفي تاريخ الجنس البشري لنستعرض رحلات العلم والتفتح الذهني المترافقة بالمعاناة والعذاب.
في قرار لعن العالم المسلم والطبيب النطاسي أبي الوليد (ابن رشد) ملهم النهضة الإنسانية الحالية؛ ذكر صاحب كتاب (الذيل والتكملة) ابن عبد الملك نص الإدانة الكامل. سننقل منه بعض الفقرات لمقارنتها بنصوص إدانة أخرى، وأحكام مرعبة تاريخية رهيبة تالية في مسيرة نهضة العقل الإنساني على مدار رحلة الجنس البشري في بقاع منوعة وثقافات متباينة وأديان شتى، في محاولة لإمساك وفهم سنة الله التي تتكرر ولا تخيب في المستوى الإنساني، مستوى قانون الأحداث النفسية الاجتماعية في معركة الخرافة والعلم.
جاء في قرار اللعن لابن رشد الفقرة التالية التي دشنها فقهاء عصره: (وقد كان في سالف الدهر قوم، خاضوا في بحور الأوهام… فخلدوا في العالم صحفاً، ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق.. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها… ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا… فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب… وهؤلاء قصارى همهم الغمومة والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق.. فاحذروا ـ وفقكم الله ـ هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه… والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم) ؟؟!!
هذا كان مصير الفيلسوف المبدع الذي استفادت منه أوربا أكثر من العالم الإسلامي، ففي الوقت الذي أطلق فيها شرارة العقل المفكر، كان هذا الصك يحكي لنا حرق كتبه أينما وجدت!!
وبذا أعدمت مؤلفاته من أمثال (شروحات أرسطو) و(تهافت التهافت) و(فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). وهي اليوم كتب نادرة لا يستفيد منها أحد، كما لم يستفد منها أحد سابقاً (باستثناء الغرب!).
كان مصير ابن رشد أفضل حظاً من غيره لأنه لم يحرق حياً، بل اكتفي بنفيه إلى (الليسانة) ليقضي فيها ما تبقى من أيام شيخوخته، وألقي هناك معزولاً منبوذاً مدحوراً وهو في السبعين من عمره، ولم يعش بعدها إلا سنوات قليلة.
كان ذلك التاريخ المشؤوم عام 591 هـ الموافق 1194 م حيث مات المفكر المبدع بعدها في عام 1198م أي مع خاتمة القرن الثاني عشر الميلادي ونهاية القرن السادس الهجري. ولكن هل تبقى الأمة التي تفعل بمفكريها هذه الفعلة بدون عقاب؟ لنسمع إذن خبر التاريخ عن معركة (العِقاب)؟!.
بعد موت الفيلسوف العظيم بأربعة عشر عاماً نكبت (اليتيمة والأيتام) على حد تعبير الخليفة الموحدي (المنصور) الذي وصف الأندلس وأهلها بهذه الصفة، وأوصى بهم على فراش الموت، نكبت الدولة الموحدية بنكبة عسكرية لم تقم لهم قائمة بعدها. كان ذلك في معركة (العُقاب) أو معركة لاس نافاس دي تولوسا في يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609هـ (ليلة 16 يوليوز سنة 1212م).