كيف كان القصر يُنقذ المغاربة من الإشاعات والمخاطر
تاريخ من الابتكارات المغربية لاحتواء الأزمات
يونس جنوحي
في سنة 1936، بالضبط في الخامس عشر من فبراير، كتبت الصحافة الفرنسية، خصوصا «لو بوتي ماروكان» أن السلطان محمد بن يوسف، زار مدينة مكناس التي كانت تعيش على إيقاع إشاعات باستمرار حالات الإصابة بمرض جلدي انتشر في الأوساط الشعبية وسرت الإشاعات تؤكد استمراره رغم أن الأمر لم يكن بالصورة التي تم تداولها. وكان السلطان محمد بن يوسف قد أرسل بعض معاونيه لاستقصاء الأوضاع والعودة بالخبر اليقين. وقد كان في أرشيف المراسلات الملكية، كما أشار المؤرخ السابق عبد الكريم الفيلالي، الذي ارتبط بدوره بمدينة مكناس ارتباطا روحيا عميقا قرّبه من محمد الخامس أكثر، إلى وجود رسائل مخزنية في هذا الموضوع كانت عبارة عن ردود من بعض الشخصيات المكناسية إلى السلطان محمد الخامس يؤكدون له فيها انتهاء العدوى وأن ما يروج لم يكن إلا إشاعات سعى إلى نشرها بعض المناوئين للاستعمار لنشر الفوضى والهلع.
وهكذا قرر محمد بن يوسف من تلقاء نفسه أن ينظم زيارة إلى مكناس لقطع تلك الإشاعات.
اليوم الذي لن ينساه سكان «خريبكة» مع محمد بن يوسف
في سنة 1942، قبل الإنزال الأمريكي في الدار البيضاء والجديدة، للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، كانت بعض المدن المغربية بشكل جزئي تعيش على إيقاع بعض الأمراض المُعدية التي تفشت في بعض التجمعات السكانية، خصوصا في المدن العتيقة.
سرت إشاعات في مدينة خريبكة تفيد بانتشار مرض مثل «الجرب» وهو ما تسبب في رعب حقيقي، توجهت على إثره عدد من الأسر للإقامة عند أقاربهم في مدن أخرى بعيدة عن خريبكة إلى أن تمر الأزمة. وهو ما خلق هلعا كبيرا في أوساط الأسر المضيفة مخافة أن تنقل لهم العدوى.
هذا السيناريو بحذافيره تكرر في مكناس بعد الاستقلال خلال أزمة الزيوت المسمومة، سنة 1959، وهو دليل على أن الأمر عادة مغربية أصيلة. إذ فور انتشار المرض في أيامه الأولى فر الكثيرون من مكناس ظنا منهم أنها أرض وباء، وتوجهوا صوب البوادي والمدن التي يتوفرون فيها على عائلات، وهو ما نقل الهلع إلى مدن أخرى سرعان ما تبدد بعد كشف السبب الحقيقي وهو زيوت الطائرات المسمومة التي تسببت في إعاقة الذين تناولوها.
أما قضية خريبكة، فقد كانت تختلف كثيرا، إذ أن الأمر يتعلق بطفح جلدي ظهر في أحد الحمامات الشعبية في نواحي خريبكة، ولم ينقل في الهواء كما ظن المحليون وإنما كان الأمر يتعلق بطفح جلدي عادي ينقل عن طريق اللمس أو الاحتكاك بالمصابين أو ملابسهم. وانتهى بشكل عرضي بعد اغتسال المصابين.
كان باشا مدينة خريبكة، الباشا الحاج الشرادي الذي كان من أصدقاء الملك الراحل محمد الخامس، قد رفع رسالة في الموضوع إلى السلطان يخبره فيها أن خبر الوباء غير صحيح وأن الأمر يتعلق بمرض عادي تم التحكم فيه عن طريق أعوان السلطة من مقدمين وشيوخ.
وهو ما جعل السلطان محمد بن يوسف يزور الباشا في منزله في خريبكة، في زيارة وصفت بالتاريخية، إذ كانت دار الباشا لا تبعد كثيرا عن مقالع الفوسفاط التي زارها محمد بن يوسف في ذلك التاريخ ونظمت له استقبالات حاشدة بتلك المناسبة.
بعد الزيارة تبددت مخاوف الناس الذين غادروا منازلهم، وشاعت أخبار عن استحالة حلول السلطان في أرض بها وباء، وأن زيارته إلى خريكبة دليل على أن المدينة خالية تماما من أي مرض مُعد، وعادت الحياة إلى طبيعتها.
حتى أن صحفا فرنسية منها «لو كازابلونكي» و»لو بوتي ماروكان» كتبت عن الزيارة الملكية إلى خريبكة وإقامة السلطان محمد بن يوسف في دار الباشا الشرادي واستقباله فيها لممثلي المناطق وأعيان المدينة، والأثر الذي تركته الزيارة في أوساط سكان المدينة لتنتهي الأزمة وتعود الحياة إلى طبيعتها.
كيف كان المغرب إذن يواجه أزمات من هذا النوع عبر التاريخ؟ لا بد أن الأمر مثير خصوصا وأن المراجع التاريخية نادرة في هذا الموضوع. حتى أن المؤرخ الراحل الذي توفي في بداية ستينات القرن الماضي، عبد الرحمن بن زيدان، أفرد بضع صفحات وهو المعروف بتأريخه لتاريخ الدولة العلوية وتدوينه لعادات الملوك وأجواء القصور الملكية من الداخل بحكم انتمائه للعائلة العلوية، تحدث بدوره عن إشارات لطرق مواجهة سلاطين الدولة العلوية لأخبار الأوبئة، وشجاعتهم في التصدي لها إما بالنزول لتكذيب الإشاعات منها، وإما بتوجيه ممثليهم في المناطق لكي يرفعوا عن الناس كل ما من شأنه المساس بأمنهم وحياتهم. وهكذا استطاع المغرب في عدد من المناسبات التي لم ينج منها جيراننا في دول أخرى، الخروج بسلام من مجاعات وكوارث أزهقت آلاف الأرواح.
عندما وزعت الدولة الملح لطرد المرض
في عهد المولى الحسن الأول (1873-1894)، كما أشار السيد ريموند هاي، الممثل الدبلوماسي لبريطانيا في المغرب لتلك الفترة، كان المغرب مسرحا لعدد من الأحداث العصيبة التي حيّرت حتى الممثلين الدبلوماسيين الأجانب في المغرب.
علما أن أوربا خلال تلك الفترة، أي القرن 19، كانوا أيضا يعيشون على إيقاع عدد من الكوارث التي تسببت في مئات آلاف حالات الوفيات.
«البركة» كانت دائما موضوع انتقاد أجنبي للمغرب. فقد كتب القنصل الأمريكي في المغرب سنة 1908، السيد هولت، بشكل مطول في مذكراته عن مهامه الدبلوماسية في شمال إفريقيا وفي عدد من الدول العربية بالشرق الأوسط، منتقدا عددا من الظواهر وأحيانا ناقلا لها فقط.
في تجربته المغربية تحدث السيد هولت عن السلطة الدينية وثقة الشعب بكل ما تقترحه الدولة أو تمليه في فترات الكوارث الطبيعية. وهو ما يحيلنا أيضا على علاقة الزوايا بالمخزن. ففي عهد المولى الحسن الأول دائما تم الاعتماد على الزوايا لتهدئة خوف الناس من الإصابة بالمرض القاتل الذي لم يكن مُشخصا وقتها، نظرا لكثرة الأوبئة من الكوليرا إلى الطاعون وغيرها من الأمراض المعدية غير المعروفة في ذلك التاريخ. ولعبت الزوايا، كما جاء في كتاب «الزوايا والمخزن» دورا كبيرا في تأطير الناس سياسيا وحتى أمنيا من خلال توفير ما يلزم لإبقاء الناس على قيد الحياة بعيدين عن الخوف من المجهول.
حتى أن بعض الأساطير والمعتقدات كانت تحظى بمصداقية محلية كبيرة في أوساط المغاربة. ومنها استعمال الملح لما له من دلالة على الطعام و»العشرة» ونظرا أيضا لضرورته داخل المنازل والمخازن، حيث عمم المخزن قرارا على الناس يتوجب عليهم بموجبه التوفر على كمية من الملح توضع داخل المنازل لطرد لعنة المرض الذي فتك بحياة الآلاف.
اهتمام المغاربة بتفسير هذه الظواهر بدا واضحا أيضا في «تاريخ الضعيف» الرباطي الذي أورد بدوره صورا من القرن التاسع عشر، في عدد من مناطق المغرب وصلت أخبارها إلى فاس، وتتعلق بسلوكات غريبة في التعامل مع الأمراض. ولعل أشهر قصة في تاريخ الضعيف الرباطي هي قصة التوأم الملتصق الذي وُلد في منطقة تافيلالت، حيث فُسر الحدث غيبيا واعتبره بعض العلماء من «علامات الساعة»، ووصل الخبر إلى فاس وطلب إحضار التوأم لطي يراه علماء القرويين، وتلقت عائلتهما نصائح بإطعامهما طعاما خاصا، ونقلهما للإقامة في بعض الأضرحة، والغريب أن هناك تأويلات تتعلق بالملح، كأن يناما في مخزن للملح حتى يشفيا من «المرض» الذي لم يكن مرضا في الأصل.
لكن عندما تعلق الأمر بالأوبئة، فقد استطاع المغاربة النجاة منها بأعجوبة قلما اختلطت بالطرافة، وإنما ارتبطت في أغلبها بحزم «المخزن» وتجند الزوايا خصوصا في أزمات الجفاف والمجاعات.
محمد الخامس زار مكناس لقطع إشاعات وجود عدوى غامضة
ليس فقط لأن علاقة الملك الراحل محمد الخامس بمدينة مكناس كانت وجدانية يفسرها استقرار بعض أحبائه من أفراد العائلة بها، بل لأنه قضى بها ذكريات عائلية بقي وفيا لها حتى بعد أن أصبح سلطانا مغربيا يسبقه «المخازنية» لكي يسهروا على تنظيم طقوس الجلسات والزيارات على طريقة القصور القديمة.
في سنة 1936، بالضبط في الخامس عشر من فبراير، كتبت الصحافة الفرنسية، خصوصا «لو بوتي ماروكان» أن السلطان محمد بن يوسف، زار مدينة مكناس التي كانت تعيش على إيقاع إشاعات باستمرار حالات الإصابة بمرض جلدي انتشر في الأوساط الشعبية وسرت الإشاعات تؤكد استمراره رغم أن الأمر لم يكن بالصورة التي تم تداولها. وكان السلطان محمد بن يوسف قد أرسل بعض معاونيه لاستقصاء الأوضاع والعودة بالخبر اليقين. وقد كان في أرشيف المراسلات الملكية، كما أشار المؤرخ السابق عبد الكريم الفيلالي، الذي ارتبط بدوره بمدينة مكناس ارتباطا روحيا عميقا قرّبه من محمد الخامس أكثر، إلى وجود رسائل مخزنية في هذا الموضوع كانت عبارة عن ردود من بعض الشخصيات المكناسية إلى السلطان محمد الخامس يؤكدون له فيها انتهاء العدوى وأن ما يروج لم يكن إلا إشاعات سعى إلى نشرها بعض المناوئين للاستعمار لنشر الفوضى والهلع.
وهكذا قرر محمد بن يوسف من تلقاء نفسه أن ينظم زيارة إلى مكناس لقطع تلك الإشاعات.
لفهم هذا السياق أكثر لا بد من التطرق لأجواء الزيارات الملكية للملك الراحل محمد الخامس. فقد كانت زياراته حدثا يشغل حياة سكان المناطق التي يزورها، خصوصا في مدينتي مكناس وفاس اللتين قضى بينهما طفولته.
فقد كانت زياراته للمدينة تخرج عن نطاق الزيارات العادية الاستكشافية، وتصبح لها صبغة تشبه الأعياد، كما ذكر المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان الذي واكب مرحلة حكم الملك الراحل محمد الخامس من بدايتها بحكم انتمائه إلى العائلة الملكية الكبيرة، وكتب أن زيارات محمد بن يوسف إلى مكناس كانت طقسا وليس زيارة عادية فحسب. فقد كانت تنظم فيها حفلات ختم القرآن الكريم وافتتاح المساجد بل كان بعض تجار المدينة المعروفين ينتظرون زيارات السلطان محمد بن يوسف لكي يوزعوا الزكاة السنوية لتجارتهم، وينظموا ما يشبه حفلات شعبية للفقراء تُذبح خلالها الذبائح طيلة أيام الزيارات التي خص بها السلطان محمد بن يوسف مكناس والنواحي.
بالعودة إلى موضوع انتشار العدوى، فقد نجحت زيارات السلطان محمد بن يوسف في إطفاء تلك الإشاعات وعودة الحياة إلى طبيعتها، خصوصا وأن بعض الأعيان كانوا يستغلون أخبار انتشار العدوى والأوبئة لإجلاء السكان، من القرى خصوصا، للاستيلاء على أملاكهم مستقبلا.
كتب المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان في مؤلفه «العز والصولة» الذي تطرق فيه إلى تفاصيل العادات الملكية في الزيارات، أن بُعدا روحيا كان للزيارات الملكية يتجاوز بكثير البُعد السياسي، وأعطى المثل بإعادة الاطمئنان لسكان المناطق التي مسها الوباء بعد تجول الملك محمد الخامس في الأحياء المتضررة سابقا لتأكيد الأخبار الرسمية عن انتهاء العدوى.
أطباء وكُتاب تطرقوا للحالة الوبائية عندنا وأثنوا على طرق العلاج رغم بساطتها
لا يمكن أن نعدم أمثلة في هذا الباب. فرصد الذين كتبوا عن المغرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يتيح إمكانية التعرف عن المغرب خارج التقارير الرسمية التي كان يرفعها العمال والولاة إلى هرم السلطة باللغة المخزنية العتيقة.
كتابات الأجانب عن المغرب كانت مفعمة بالحياة يختلط فيها ما هو إنساني بغيره. وتكون مجردة، رغم قساوتها وإمكانية خضوعها للخيال في بعض الأحيان. لكن صورها كانت بليغة وتمثل الواقع المغربي على كل حال.
الكاتبة البريطانية التي اشتهرت في القرن 19 بكتابة المغامرات، «كاثلين مانسيل بليديل» كانت قد ألفت كتابا تتجاوز عدد صفحاته 200 صفحة ترسم فيه واقع أجدادنا المغاربة في جميع مجالات حياتهم وتقاليدهم التي كانت تبدو غاية في الغرابة للأجانب، وقد خصصت بعض مقاطعه للتطرق لمعاناة المغاربة مع غياب الوسائل الطبية. وقضت «شتاء في المغرب» كما عنونت كتابها، رغم أنها قضت جل المدة في فندق بطنجة لكنها نقلت يوميات حياة نزلاء الفندق وانبهارهم بالمدينة وقصص مجيئهم إلى «إفريقيا».
طبيب من مانشستر، يوجد كتابه في أرشيف جامعة كاليفورنيا وهو الآن متاح للقراءة بنسخته الأصلية التي تعتبر مشاهدات من المغرب، باعتباره متخصصا رغم أنه لم يأت إلى المغرب في إطار مجال عمله، وإنما كان في مهمة عسكرية، بحكم أنه كان مجندا في المستعمرات الإفريقية، وكان فقط في طريق عودته إلى بلده الأصلي، بريطانيا، عبر شمال إفريقيا، فقرر أن يبقى لفترة قصيرة في المغرب وجد نفسه خلالها مجبرا على الكتابة من أجل مشروع مذكراته الذي لم ير النور إلا بعد وفاته بسنوات. ورغم أن الأوراق في جامعة كاليفورنيا صنفته ككاتب مجهول، بحكم تلف الصفحات الأولى من كتابه واستحالة الوصول إلى اسمه، إلا أن كتاباته كانت بدقة كبيرة، تؤكد فعلا أنه توقف في المغرب خلال رحلة العودة من أدغال إفريقيا إلى أوربا.
يقول في إحدى الصفحات التي يصف فيها واقع الطب في المغرب خلال سنة 1886: « في الطريق إلى العرائش، كانت هناك ممرات غابوية كثيرة. في المرة الأولى التي كنت أتجه فيها شمالا فوق صهوة الحصان مرفوقا بعدد من المسافرين الذين كانوا يقصدون الشمال للعودة إلى أوربا، رأيت مجموعة من الناس متجمعين حول الأرض وكأنهم يتفقدون شيئا ما. وكانوا يصرخون وبدا واضحا أنهم متوترون. عندما اقتربنا منهم، تحدث معهم اثنان من المغاربة الذين كانوا يعملون مرشدين لنا. وقالوا لنا إنهم يتجمعون حول أحد أقاربهم، والذي تعرض لطلقة بندقية من بعيد على يد مجهولين، وأنه الآن ينزف بشدة. حاولت الاقتراب لرؤية الطريقة التي كانوا يحاولون بها إيقاف النزيف من منطقة إبطه. كانوا يضعون مناديل لم تكن نظيفة، ولم يقوموا بتنظيف الجرح. أضرم أحدهم النار وقامت بعض النسوة بغلي بعض الأعشاب وقدموها له، بينما كان واحد منهم يراقب المنديل حتى إذا ابتل بالدم، قام باستبداله بآخر أكثر اتساخا. عرضت عليهم مساعدة، وقمت بتنظيف الجرح بعدة الأدوية التي لا تفارقني. وبقوا ينظرون إلي وأنا أزيل البارود. عندما رأى أحد الرجال المسنين الجرح غائرا، دفعني بقوة وأحضر إبرة وخيطا عاديا. كانت إبرة سميكة وضخمة أمسكها بأصابعه المتسخة، ومررها من النار التي أضرمتها المرأة لتغلي فوقها الأعشاب، إلى أن احمرّت، وغمسها في الماء البارد وشرع في عملية خياطة الجرح بعد أن نظفته. كان المريض يتألم بشدة، ويعض شفتيه ويتصبب عرقا، وسرعان ما دخل في غيبوبة. توقعت أن ينجو لأن الرجل المسن قام بخياطة الجرح وكأنه يخيط قطعة ثوب، لكن المناديل المتسخة التي كانوا يضعونها فوق جرحه قبل تنظيفها، كانت لتودي بحياته لأنها كانت تمتص كمية كبيرة من الدم. أما الأعشاب التي قاموا بغليها في قدر، فالمرجح أنها قد تكون نافعة لعلاج مغص في الأمعاء أو الإسهال».
هكذا حمى «المخزن» البلاد من مصائب تاريخية
رغم أن واقع المغاربة كان عصيبا في فترة ما قبل الحماية الفرنسية وما بعدها أيضا، وتوثقه الصور التي تعود لتلك الفترة، إلا أن البلاد نجت من محطات قاتلة عصفت بأعداد كبيرة من سكان بلدان أخرى، كان وضعها أفضل بكثير من وضع المغرب.
مثل المجاعات التي ضربت في شمال إفريقيا، وامتدت من ليبيا إلى المغرب ومات خلالها مئات الآلاف. مثل مجاعة 1846 التاريخية التي فر على إثرها عدد من سكان المنطقة الحدودية بين المغرب والجزائر، وشكل استقرارهم في بعض الدواوير نواحي مدينة وجدة وفاس، هلعا حقيقيا ونزوحا خوفا من تفشي الأمراض.
لقد كان نظام المخزن القديم، أحد أسباب نجاة مناطق بأكملها في المغرب. إذ كان الباشاوات يتمتعون بتفويض كامل لكي يطوقوا المناطق التي تقع تحت نفوذهم، ويتبارون في إثبات ولائهم للدولة. وكانت هناك مناسبات كثيرة منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أي فترة حكم المولى يوسف ثم مع محمد الخامس في فترة شبابه، أثبت فيها الباشاوات خصوصا الكلاوي والكندافي والمزواري في الجنوب والشرادي في خريبكة، أثبتوا أن بإمكان سلطة المخزن أن تفرض الحجر الصحي على المغاربة وتمنع التحركات بل وتجنب البلاد المجاعة واحتكار السلع والمضاربات في الأسعار.
فقد وصلت شكايات كثيرة إلى القصر الملكي، في فترات تاريخية متفرقة، بخصوص الفوضى في الأسواق واستغلال الأزمات والأمراض والوباء لرفع الأسعار، وكان عقاب سلطة المخزن وقتها قاسيا للغاية، حتى أنه في أحيان كثيرة لم يكن الباشاوات ينتظرون تدخل القصر ويسارعون إلى معاقبة المخالفين. مثل الباشا الكلاوي الذي كانت محاكم منطقة مراكش كلها تقع تحت نفوذه ويتحكم بالتعيينات فيها بل ويترأسها بصفة شخصية.
ورغم التجاوزات والخروقات التي سجلت ضد عدد مهم من أعوان المخزن وممثليه وصلت حد الاتهام باستغلال النفوذ والسلطة وتصفية المعارضين باسم حماية السلطة والاستقرار، إلا أن تجربة أعوان المخزن وممثلي السلطان في المناطق، كان لها دور كبير في تجنيب المغرب الأسوأ، خصوصا خلال الفيضانات والمجاعات. كان مفهوم الدولة يتخلص في تلك التدخلات.
تقرير فرنسي في 1916 تحدث عن العلاج بالأسواق الأسبوعية واعتبره «سبب» النجاة
يبقى التقرير السري الذي أنجزه الفرنسي «دوأمسيس»، ورفعت عنه السرية في ما بعد بل واعتبره مادة جامعية للباحثين، أحد أقدم التقارير وأكثرها عمقا لرصد تاريخ حياة المغاربة وكيف كانت بدقة قبل دخول الحماية الفرنسية إلى المغرب.
لكن في 1916 أعلنت جامعة باريس بكثير من الفخر إنجازها لعدد من الدراسات المعمقة عن المغرب بإشراف باحثين فرنسيين في علم الاجتماع والعلوم الطبيعية أيضا. وهذه البحوث أنجزت ما بين 1913 و1915، وصدرت بعد ذلك في إطار البحث الأكاديمي، بعد أن استفاد الباحثون من منح سخية من الدولة وتسهيلات وامتيازات في فرنسا والمغرب، والملاحظ أن جُل هؤلاء الباحثين سبق لهم إجراء بحوث سابقة في الجزائر أو أنهم درسوا بها واستفادوا من عامل اللغة لكي يستطيعوا التنقل والتواصل في المغرب لاستقاء عناصر تلك البحوث.
أحد هذه الأبحاث، ركّز على سر نجاة المغاربة من الأمراض المعدية والموسمية رغم أنها كانت متلاحقة وفتاكة. التقرير أنجزه طبيب اسمه «آلان تي. لاراد» ويحكي فيه عن معاينة لطرق العلاج التي تعتمد في المغرب خلال تلك الفترة. وأشار إلى أن جميع المناطق التي زارها كانت تعتمد الأسواق الأسبوعية موعدا أسبوعيا للعلاج على يد خبراء مغاربة في الحجامة، كانوا يمارسون الحلاقة والختانة أيضا ولديهم تفويض شعبي ويعملون بانتظام بتنسيق مع السلطة المحلية ممثلة في القياد والباشاوات، ويعتبرون أن حياة الناس أمانة في أعناقهم.
المثير بهذا الخصوص أن الحجامة لم تكن معروفة في الأوساط الأوربية، لكنها تبقى طريقة عتيقة في التخلص من الدم الفاسد الذي يكون في العادة سببا في الكثير من الأمراض والمضاعفات الصحية الخطيرة التي لم يكن المغاربة يملكون أي دواء لعلاجها. بعكس أوربا الذين كانوا متقدمين في ذلك الوقت طبيا. لذلك كانوا ينظرون إلى الحجامة على أنها طريقة بدائية يقوم بها المغاربة فقط لأنهم لم يكونوا يتوفرون على أدوية لعلاج الأمراض التي تتربص بهم.
والحقيقة أن الحجامة لم تكن لتنفع ضد الأمراض المعدية التي تنتقل عن طريق الهواء وتصيب الجهاز التنفسي أو الجلد، بقدر ما كانت ناجعة لأمراض ارتفاع الضغط والأعراض الأخرى المرافقة له، لكن الملاحظ أن الأطباء الأجانب الذين زاروا المغرب منذ 1860 وصولا إلى مرحلة الحماية، لم يحاولوا فهم سر الحجامة ولا فعاليتها، وحكموا عليها من البداية بأنها طريقة بدائية ومحلية لا تقدم أي علاج للأمراض التي يحملون هم أدويتها في جرابهم.
والحقيقة أن الحجامة تعود إلى فترة ازدهار الطب الإسلامي، وكتبت عنها مؤلفات كثيرة لأطباء كان لهم دور كبير في تأسيس علوم الطب التي تُدرس في الجامعات الأوربية والأمريكية أيضا، ولم يدرك زوار المغرب هذا الأمر في حينه، لذلك كانت مذكرات الكثيرين منهم تسخر بحدّة من الطريقة التي كان يمارس بها المغاربة الحجامة في الأسواق الأسبوعية، نظرا لغياب المستشفيات أو العيادات الطبية التي يمكن أن تُقدم فيها هذه الخدمات.
جاء في عدد من المراجع، وحتى في الروايات الشفهية التي جمعها بعض طلبة شعبة التاريخ في إطار البحوث التاريخية للتخرج، بخصوص الطب الشعبي في المغرب خلال القرن 18 و19، أن أجدادنا كانوا يستغلون الأسواق الأسبوعية باعتبارها تجمعات منتظمة لكل الفئات الاجتماعية في المغرب، ليضربوا موعدا أسبوعيا مع المرضى للتداوي بطريقة الحجامة التي كان الناس يعتقدون يقينا أنها تشفي كل الأمراض الباطنية مهما كانت خطورتها.
كانت العملية تتم باستعمال أنبوبين معدنيين يستعملهما «الحجام»، وهو الاسم الذي يطلق على الشخص الذي يشرف على عملية الحجامة، ويثبثهما خلف رأس المريض، ليتصلا بالأواني الزجاجية الشبيهة بالكؤوس والتي يجتمع فيها الدم الفاسد الذي يتم مصه خارج فروة الرأس الحليق أو نقط محددة من ظهر المريض، وهكذا يخلصه «الحجام» من كميات الدم الفاسد في جسمه. وتستعمل نفس الأواني لعلاج عشرات المرضى، وربما المئات، في كل سوق أسبوعي، دون تعقيم أو مراعاة لشروط السلامة الصحية. كما أن المكان الذي كانت تتم فيه العملية لم يكن يخضع لأي شروط، بل كان يتموقع في أغلب الأسواق الأسبوعية في أماكن الرواج التجاري وسط المارة والغبار.