كيف عاش الجزائريون لحظة مقتل بوضياف على المباشر؟
يونس جنوحي
كيف يعقل أن يتزامن مخطط اغتيال الرئيس محمد بوضياف سنة 1992، خلال رحلة أواخر يونيو إلى شرق البلاد وغربها في زيارات «مكوكية» للأقاليم والتعرف على المسؤولين المدنيين، مع انتشار معلومات مخابراتية يشرف عليها الجيش، مفادها أن البلاد تعرف تهديدات أمنية؟
الفرق العسكرية والمخابراتية التي كانت تشرف على الموضوع هي نفسها التي تشرف على مخطط اغتيال بوضياف ووضع حد لحياته لما بات يشكله من تهديد لنظام الجنرالات.
الغبار
قبل أن تنفجر الأوضاع باغتيال بوضياف، كان هناك دخان كثيف يعلن وجود أزمة حقيقية في قلب «آلة» الحكم في الجزائر. كان الجنرال نزار يخطط لاتهام بوضياف علنا بالعمالة لدول أجنبية، من بينها المغرب بحكم الصداقة التي كانت تجمعه بالملك الراحل الحسن الثاني. ثم دول عربية كانت على وفاق مع بوضياف، بعد أن استحال عليها التعامل مع الجنرالات، مثل السعودية.
الثقل الدولي الذي بدأ يشكله بوضياف أصبح مقلقا للجنرالات، خصوصا وأن عملاءهم في فرنسا حذروهم من استحواذ بوضياف على الصورة بشكل أكبر مما كان عليه سابقه الشاذلي بن جديد.
هذا الدخان المنبعث كان إعلانا بوجود مشاكل عميقة في قلب النظام، وأن أيام بوضياف باتت معدودة.
ففي اللحظة التي خرج فيها بومعرافي من المكتب وكلمة «اغتيال بوضياف» تطن في أذنه، كان الجنرالات يستعدون حرفيا لاستعادة «الدولة» من الرئيس، والإمساك بكل أطرافها من جديد.
فخ مُحكم
كانت عملية الاغتيال برمتها محكمة، إذ إن بومعرافي لم يكن في الحقيقة سوى كبش فداء تم اختياره بعناية. يقول هشام عبود إن الجنرالات خططوا بدقة لخطة بديلة تتمثل في أن يدخل القاعة التي سوف يلقي فيها بوضياف خطابه وسوف ينقله التلفزيون، أربعة مسلحين من القوات الخاصة، مُدربين جيدا على تلك الأمور، وسوف يطلقون وابلا من الرصاص في اتجاه الرئيس لاغتياله أمام ملايين الجزائريين، ووقتها سوف يبدو بومعرافي إما مغفلا لأنه سوف يكون مسلحا دون أن يقتل الرئيس، وإما أنه سوف ينخرط في العملية ويظهر في الأخير وحيدا في المشهد باعتباره المجرم، ووقتها سوف يتخلى عنه الجنرالات، على الأقل أمام العالم وأمام الرأي العام الوطني الجزائري، وقد يُكافئونه في الخفاء.
شخصية بومعرافي الانطوائية وانعزاله عن زملائه وسجله الذي يؤكد أنه مضطرب وغير ملتزم، كلها نقط نفسية سوف تساعد الجنرالات في تلبيسه التهمة لوحده باعتباره عسكريا غير ملتزم ولديه سجل سوابق من المخالفات. أي أن رؤساءه في الجيش أنفسهم قد عانوا معه. وهكذا سوف تكون حياة بوضياف غير مُكلفة لأعدائه، بعد أن يلصقوها بعسكري مخبول برتبة عسكرية متدنية.
ساعة الصفر
رغم تخطيط الجنرالات لتصفية بوضياف على طريقة المحترفين بتخصيص أربعة مسلحين من القوات الخاصة مدربين جيدا على الاغتيالات والتصفيات، إلا أن بومعرافي فاجأ الجميع عندما أبان عن جاهزيته لتنفيذ عملية اغتيال بوضياف دون حتى أن يرف له جفن. ماذا وقع؟
يقول هشام عبود: «أين كانت الحماية الخاصة للرئيس؟ عند لحظة دخوله منصة دار الشباب بعنابة، أخذ بومعرافي وقته كاملا وأفرغ خزان سلاحه في بوضياف وغادر بهدوء».
هل يعقل أن تكون العملية تمت بهذه الطريقة؟
يبدو أن بعض مخاوف الجيش كانت مجانية، فالعملية تمت بسهولة كبيرة تركت الحاضرين والمشاهدين مصدومين للحظات قبل أن يستوعبوا فعلا أن شابا عبثي المنظر نحيف البنية توجه بهدوء إلى مكان الخطاب وأفرغ كل الرصاص الذي معه في جسد بوضياف وغادر وكأنه ينفذ سرقة بسيطة في الشارع العام.
مضت ثوان وكأنها سنوات، إلى أن فطن الحاضرون إلى أن بوضياف اغتيل فعلا وعمت الفوضى في المكان. المسؤولون حاولوا النجاة بحياتهم، والحاضرون توزعوا في جنبات القاعة كل يبحث عن منفذ. بينما المشاهدون في المنازل نزلوا إلى الشوارع غير مصدقين لما تابعوه قبل قليل في التلفزيون. بينما لا أحد في الجزائر كان أكثر هدوءا من بومعرافي.. الذي سوف يصبح منذ تلك اللحظة مجرد رجل يعاني مشاكل نفسية، سبق لرؤسائه في الجيش أن عانوا معه لأنه لم يكن منضبطا، ولا بد أنه غادر الثكنة في غفلة، وجاء ليقتل رئيس الجمهورية الذي لم يكن يحب الجيش.