شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

كيف تعامل المغرب مع رؤساء أمريكا الأولين؟ من جورج واشنطن إلى دونالد ترامب

 

مقالات ذات صلة

يونس جنوحي

«عندما سبق المولى محمد الثالث إلى الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الامريكية سنة 1777، تلت هذه الفترة مرحلة برود في العلاقات، تحولت إلى سوء فهم، خصوصا أيام المولى سليمان. حتى أن مرحلة ما بين سنتي 1802 و1830 كانت واحدة من أسوأ المراحل في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق.

مرحلة المولى سليمان الذي طرد القنصل الأمريكي من المغرب، سرعان ما صححها المولى عبد الرحمن الذي عمل على تصحيح العلاقات مع الأمريكيين، معيدا الأمور إلى نصابها كما كانت أيام المولى محمد الثالث.

ومنذ ذلك الوقت، تحول رؤساء أمريكا على التوالي إلى أصدقاء مخلصين للمغرب، رغم قتامة الأجواء الدولية لأكثر من ثلاثة قرون».

 

جورج واشنطن وصف السلطان محمد الثالث بـ«صديقي الهُمام العظيم»..

عندما أصبح جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية ما بين سنتي 1789 و1797، كان المغرب بالنسبة إليه يحظى باهتمام كبير، خصوصا في ظل وجود سلطان هو المولى محمد الثالث.

سبق وأن انفردنا في «الأخبار» بنشر نص الرسالة التي بعث بها جورج واشنطن إلى المولى محمد الثالث، في دجنبر سنة 1789. وهي الرسالة التي كان المؤرخ عبد الهادي التازي أول من اطلع على نصها، أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة، حيث أجرى بحثا توثيقيا مهما للغاية. ولا يزال نص الرسالة موجودا في الأرشيف الرسمي بواشنطن، وعمل الأمريكيون على توفير نسخة ممسوحة ضوئية، لكي تكون رهن إشارة الباحثين، للتوثيق لتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأولى لتأسيسها.

هذا نص الرسالة:

«إلى جلالة إمبراطور المغرب،

صديقي الهمام العظيم

منذ تاريخ خطابنا الذي رفعه الكونغرس الأخير بواسطة رئيسه إلى جلالتكم، فضلت الولايات المتحدة تبديل حكومتها بأخرى جديدة تتفق والدستور الذي أتشرف بإرفاق نُسخة منه مع هذا، وإذا لم يتوصل جلالتكم بالإعلامات العادية ولا بعبارات الاعتبار من الولايات المتحدة، رغم صداقتكم ومسلككم الشجاع تجاهها مما يبرر توقعكم، فخير عذر وعلة نرفعهما إلى جلالتكم هو الوقت الذي استغرقت تلك المهمة الشاقة، ثم الارتباك الشديد الذي تخلف عن هذه الثورة، رغم سلميتها.

وما أن أجمعت الولايات المتحدة على تعييني على رأس السلطة التنفيذية العليا لهذه الأمة، حتى توصلت بخطاب جلالتكم المؤرخ في 17 غشت عام 1788، الذي ظل بدون جواب، بسبب سقوط الحكومة السابقة كما توصلت بالخطابات التي تلطفتم جلالتكم بتحريرها لصالح الولايات المتحدة إلى باشوات تونس وطرابلس، وأرفع إلى ساحتكم شكر وامتنان الولايات المتحدة لهذه الالتفاتة الكريمة الدالة على صداقتكم لها.

ولنا أن نتأسف حقيقة على هذه التصرفات العدوانية لتلك الإيالات تجاه هذه الأمة التي لم تمسسهم بسوء، تلك التصرفات التي لم يمكن دفعها وديا.

وأراضينا لا تتوفر على مناجم ذهب أو فضة، وهذا الشعب الفتي ما كاد يبرأ من خراب ودمار حرب طويلة، ولم يمهل حتى يكون ثروة ما عن طريق الزارعة أو التجارة… إلا أن أرضنا سخية وشعبنا صناعي، ولنا أن نمني أنفسنا بأننا سنتمكن تدريجيا من أن نصبح مفيدين لأصدقائنا.

وكان التشجيع الذي تفضلتم جلالتكم به على تجارتنا مع مملكتكم، والدقة التي راعيتموها في عقد المعاهدة معنا، والإجراءات المنصفة الكريمة التي اتخذت في قضية الكابتن «بروكتور»، كل هذه الأشياء تركت أثرا عميقا في الولايات المتحدة، ووكدت احترامها وتعلقها بجلالتكم.

ويسرني في هذه المناسبة بأن أؤكد لجلالتكم، أنه طالما سأكون على رأس هذه الأمة، فلن أتوانى عن تشجيع كل وسيلة من شأنها أن تدعم الصداقة والانسجام القائمين – لحسن الحظ- بين إمبراطوريتكم وبيننا. بل وسأعتبر نفسي سعيدا، كلما تمكنتُ من إقناع جلالتكم بالتقدير الكامل الذي أكنه لشجاعتكم وحكمتكم وأريحيتكم.

ولما تجتمع الهيئة التشريعية خلال اللقاء المقبل، فسأعمل على أن لا تتعطل المراسلات المتبادلة بين بلدينا، وأن تسير بالكيفية التي تروق جلالتكم وترضي جميع مطالبها. وأدعو الله بأن يبارك جلالتكم، أيها الصديق الهمام العظيم ويشملكم دائما بعطفه ورعايته.

حرر في مدينة نيويورك في بداية دجنبر 1789».

 

 

الرباط وواشنطن في السبعينيات بعيون أشهر جاسوسة أمريكية

تبقى الأمريكية «آلين غريفيث» أشهر سيدة اشتغلت في وكالة الاستخبارات الأمريكية «CIA»، في زمن الحرب العالمية الثانية. إذ إنها اشتغلت في إسبانيا على أساس أنها مهتمة بالموضة، وتزوجت الرجل الذي أصبح لاحقا أيام فرانكو، رئيسا لوزراء إسبانيا، وبفضله وطدت علاقتها مع المغرب، بحكم أنه كان صديقا للملك الراحل الحسن الثاني، كما أن ابنة فرانكو، التي كانت تزور المغرب وحلت ضيفة على الملك الحسن الثاني، لعبت هي الأخرى دورا في تعزيز وجود «آلين غريفيث» في المغرب.

في بداية أربعينيات القرن الماضي نجحت الشابة آلين والتي لم يكن عمرها وقتها يتعدى العشرين سنة، في الحصول على شهادة جامعية في الصحافة، وجندتها وكالة الاستخبارات الأمريكية لكي تتجسس لصالح الولايات المتحدة، خلال الحرب العالمية الثانية.

تقاعدت آلين بعد الحرب، وفي فترة سبعينيات القرن الماضي، لم تكن تعمل لصالح المخابرات وتفرغت لحياة الشهرة والموضة وقضت فترات عطلة متفرقة في المغرب، وصارت صديقة لأشهر الشخصيات، مثل الكولونيل المذبوح الذي كان مقربا جدا من الملك الراحل الحسن الثاني، وأيضا الجنرال أوفقير. وفي مذكراتها The Spy wore Silk التي نشرتها في بداية التسعينيات، تناولت كيف أنها في واحدة من زياراتها إلى المغرب، توصلت بمعلومات تنبئ عن قرب وقوع انقلاب على الملك الحسن الثاني، ورغبت في إطلاع سفير أمريكا في الرباط على المعلومات التي لديها، لتحذير الملك الحسن الثاني مما يحاك ضده بصفة رسمية.

لكن السيدة «آلين»، حسب ما تحكي في مذكراتها، لم تتم معاملتها جيدا من طرف موظف في السفارة لم يكن يعرف تاريخها.

ما يهم في ما تحكيه السيدة آلين، هو العلاقة الوطيدة بين أمريكا والمغرب في زمن الملك الراحل الحسن الثاني، حيث تنقل أجواء عمل السفارة في الرباط. وننقل هنا مقطعا فقط من مذكراتها: «عندما اتصلتُ بالسفارة الأمريكية في اليوم الموالي، أخبروني أن السفير كان خارج مدينة الرباط، لكن السكرتيرة حجزت لي موعدا مع نائبه، الذي استقبلني في فترة الظهيرة.

تحدثنا في مكتب الملحق، وأخبرته عن خدماتي السابقة لكل من وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب المخابرات «OSS»، الذي كان نشيطا في إسبانيا خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية. كما أخبرته أنني اشتغلت مع أسطورة التجسس «جوبيتر».

بعد ذلك أخبرته عن سبب زيارتي إلى السفارة، وأطلعته على نسخة من الوثيقتين السريتين.

ألح عليّ النائب لكي أطلعه على اسم الشخص الذي زودني بالوثائق، لكنني حاولت الاعتذار بلطف.

بمجرد ما إن سمع اسم «نبيل»، حتى ظهرت عليه علامات الاهتمام الشديد، وعرض عليّ أن أتحدث على الفور مع أحد ضباط «CIA»، في مكتبه الموجود بالسفارة.

  • قال: رئيس المركز يوجد في الخارج الآن، لكن مساعدته سوف تهتم بهذه المعلومة.

ركب رقما على الهاتف وسمعته يطلب حضور شخص ما، لكي يراني على الفور.

بعد دقائق قليلة، تم اقتيادي إلى مكتب شاسع ومكيف، لألتقي بـ«هنري رايس». كان شابا في بداية الثلاثينات من العمر، بشعر مجعد، يضع نظارات طبية سميكة.

لم أستغرق وقتا طويلا لكي أستنتج أنه لا يزال مبتدئا في ميدان التجسس، وأنه معجب جدا بنفسه. بالتأكيد كانت هذه هي مهمته الأولى خارج الولايات المتحدة، وكان يريد أن يظهر أنه يقود كل شيء هنا.

كان مسترخيا فوق كرسيه الدوار يتأرجح يمينا ويسارا، بينما كنت أشرح له طبيعة مهامي السابقة. وبسبب سلوكه غير المحترم هذا، قررت أن أتحفظ ولم أخبره بكل المعلومات التي كانت لدي.

رد عليّ «رايس» بأن المعلومات التي قلتها له من الصعب تصديقها، بحكم أنه يتوفر على عملاء كثيرين في المغرب ومن المستحيل أن يكون هناك تحضير لانقلاب على الملك، دون أن تصل إليهم أصداؤه. وعندما طلبت منه أن يتصل بالسيد «جوبيتر» لكي يخبره بالموضوع، ويطلب منه رأيه بحكم خبرته الكبيرة وحنكته، ثار في وجهي وأصبح عدوانيا بشكل ظاهر:

-إن إشارتك إلى «جوبيتر» القديم لا تثيرني. في رأيي يجب أن يُحال هو وأمثاله على التقاعد فورا.

وأضاف:

-.. ويجب أن تعذريني إذا أخبرتك أنكم جميعا في رأيي أصبحتم مُتجاوزين. نحن نتعامل مع الأمور الآن بشكل مختلف. نحن الآن نطلب أدلة دامغة، قبل أن نكلف عميلا بتتبع قضية ما. أول ما يجب عمله هو استدعاء مصدرك، لمعرفة ما إن كان فعلا موثوقا وجعله يملأ استمارة شخصية».

 

+++++++++++++++++++++++++++++++++

أوراق منسية من زمن محمد الثالث.. أول من اعترف باستقلال أمريكا

منذ 1777، تاريخ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، أيام المولى محمد الثالث، عندما اعترف هذا السلطان المغربي باستقلال أمريكا وسيادتها قبل أي دولة أخرى في العالم كله، والمراسلات الدبلوماسية بين المغرب والولايات المتحدة، تقطع مياه المحيط على شساعته، لتكتب تاريخا حافلا بالأحداث تجمع بعضها بين «الطرافة» والتوتر أحيان أخرى.

في فترة 1787، تاريخ بداية الاتصال بين الرئيس الأمريكي جورج واشنطن والمولى محمد الثالث، وصولا إلى سنة 1790، تاريخ وفاته ومجيء ابنه المولى سليمان إلى السلطة، كانت العلاقات المغربية الأمريكية تعرف تناغما كبيرا، جعل المغرب يدخل التاريخ، ليس باعتباره أول بلد يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية على عهد المولى محمد الثالث، ولكن بحكم أن المغرب فعلا أول بلد طلبت منه أمريكا بعد تأسيسها أن يدعمها في الساحة الدولية، لكي تؤسس الاقتصاد القوي الذي ما زالت تتربع على عرشه إلى اليوم!

البحر الأبيض المتوسط، هو قلب الزوبعة الكبيرة التي احتضنت الأحداث التاريخية التي نحن بصددها اليوم.

بدأ كل شيء عندما أراد جورج واشنطن، الرئيس الأمريكي الذي يدين له الأمريكيون اليوم بتأسيس بلادهم بالصورة التي هي عليها اليوم، أن يؤمن مرور السفن الأمريكية من البحر الأبيض المتوسط إلى أمريكا عبر المحيط الأطلسي.

وبحكم أن الأمريكيين وقتها، أي بعد 1788، قد أمنوا على سفنهم عند عبورها المحيط، قرب السواحل المغربية، بحكم الاتفاقيات بين المغرب وأمريكا، فقد كانوا يرغبون أيضا في تأمين مرور سفنهم عبر البحر المتوسط، خصوصا وأن السفن الأمريكية، بعد إبرام اتفاقية الصداقة بين المغرب وأمريكا في وقت سابق، كانت ما زالت تعاني من هجوم قراصنة طرابلس وتلمسان وتونس، وهي كلها مدن تابعة للدولة العثمانية في تركيا. وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يفكر في طلب المغرب الوساطة، لكي تتوقف عمليات الهجوم على الأسطول التجاري الأمريكي.

ويبقى المؤرخ المغربي د. عبد الهادي التازي، والذي بحكم اشتغاله في السلك الدبلوماسي، تمكن من الاطلاع على وثائق الأرشيف الذي يجمع بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وقد كتب يقول في واحدة من المحاضرات التي شارك فيها، والتي كان موضوعها السلطان محمد الثالث:

«وبالرغم من أن كتب التاريخ ظلت خرساء عن يوم من أغر الأيام التي عرفها المغرب على عهد السلطان محمد الثالث، فقد استطعنا أن نقف أخيرا على وصف لهذا اليوم في سطور مختصرة، ولكنها مليئة بالمفاخر والمناقب، كان هذا اليوم من أيام رمضان ليلة القدر من سنة 1194 (أي يوم 25 شتنبر 1780)، حيث تم بالمكان الذي يدعى لحد الآن «ظهر المجاز» بضواحي سلا استعراض حافل حضره الملك المعظم، في خيل عظيم لاستقبال هذا الفرج من الأسرى المجاهدين، لقد وردوا وكلهم يحمل جملة من المخطوطات التي راحت بها «البعثة الدبلوماسية» كهدية من ملك إسبانيا إلى الملك المعظم، هذه المجموعة التي حبس نصيب منها – في ما أعتقد – على خزانة جامعة القرويين.. أقبل موكب السلطان فامتزجت هتافات الأسرى بدوي الطلقات، التي كان الفرسان يرسلونها في الفضاء. وتفضل الملك فنزل عن فرسه، وبعد برهة خشع فيها الجمهور نطق بهذا الدعاء الكريم: «اللهم تقبلها منا ذخرا» وعلى إثر ذلك اتجه نحو القبلة، وعلى مرأى ومسمع من هذا الجمهور سجد في هذا المكان شكرا – الله الكبير المتعال، ثم ودع القبلة وأقبل على أسرى يهنئهم ويسلم على عشائرهم ودويهم، وبعد أن صافحهم أجمعين فاه بهذه الكلمات الطيبات: «الحمد لله الذي أنقذكم.. وجمع شملكم بإخوانكم المؤمنين، فاحمدوا الله على نعمه واشكروه يزدكم من كرمه».

 

 

 

أغضبت بريطانيا.. «معاهدة سلم وصداقة» بين المولى عبد الرحمن وواشنطن

في سنة 1836 وقع المغرب وبريطانيا في عهد المولى عبد الرحمن اتفاقية، لا يزال نصها الكامل متوفرا إلى اليوم، يحمل خاتم السلطان المولى عبد الرحمن وتنص كما هو واضح من عنوانها، على اتفاق سلم وصداقة بين البلدين.

إذ قبل الاتفاقية، خصوصا في عهد المولى سليمان، لم تكن العلاقات المغربية الأمريكية على ما يُرام. حتى أن هذا السلطان، أي المولى سليمان، طرد القنصل الأمريكي سنة 1802، والذي كان يقيم في مدينة تطوان، وسمح بمهاجمة الأسطول البحري الأمريكي الذي كان يعبر المياه المغربية في اتجاه الولايات المتحدة. وهذه الواقعة أدت إلى أزمة دبلوماسية كبيرة بين البلدين في عهده، عمقتها نصرة المغرب لطرابلس التي كان بحارتها يهاجمون بدورهم السفن الأمريكية.

لكن ما وقع أن المغرب فطن بسرعة إلى أن المصلحة تقتضي عدم فتح حرب مع الأمريكيين، فعُقد صلح تقديرا للعلاقات السابقة أيام المولى محمد بن عبد الله، الذي كان أول حاكم في العالم يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777.

وهكذا فإن الفترة ما بين سنة 1802، تاريخ الأزمة، وسنة 1836، تاريخ معاهدة الصلح لطي كل الخلافات، كانت مليئة بالمناوشات «الباردة»، التي لم تتطور – لحسن الحظ- إلى مواجهات بحرية شرسة مثل ما وقع لأمريكا مع دول أخرى. وتبخر التوتر عندما سمح المغرب بإقامة أول بناية قنصلية أمريكية في المغرب، كانت هدية من السلطان إلى الأمريكيين في طنجة، وما زالت موجودة إلى اليوم، وتحمل اسم «المفوضية الأمريكية في طنجة»، والتي فوتها المغرب لأمريكا سنة 1821، حيث حلت بعثة أمريكية في المغرب خلال تلك السنة، وتسلمت البناية في طقوس رسمية ورفعت فوقها العلم الأمريكي واعتُبرت أول بناية دبلوماسية تابعة لأمريكا في العالم.

بموجب معاهدة السلم والصداقة، التي أبرمت سنة 1836، تعززت المصالحة والهدنة، وصارت لها بنود رسمية تؤطرها، أهمها الاحترام المتبادل ورعاية المصالح.

قبل توقيع الاتفاق بأسابيع، كانت أخبار إعداد نص المعاهدة قد انتشرت في طنجة الدولية، وفطن إليها القنصل والوزير البريطاني الشهير «السير دريموند هاي»، الذي كان يقيم في طنجة. وبفضل علاقاته المتشعبة، زعم أنه اطلع على نص الاتفاق قبل إرساله إلى السلطان مولاي عبد الرحمن، فما كان منه إلا أن أرسل المعلومات التي توفرت لديه بشأن الاتفاقية إلى لندن، حيث اطلع عليها وزير الخارجية ورفعها مباشرة إلى رئيس الوزراء، وتقرر بإجماع الحكومة، إرسال رسالة احتجاج إلى القصر الملكي في لندن على الخطوة الأمريكية.

ما أقلق البريطانيين بشأن المعلومات المسربة، أن الأمريكيين سوف يتفقون مع المغاربة على منح واشنطن نقطة تجارية مهمة في منطقة القصر الصغير، المطلة على البحر الأبيض المتوسط. وهو ما رأى فيه البريطانيون تهديدا صريحا لمصالحهم التجارية، سيما وأن بريطانيا وقتها تسيطر على منطقة جبل طارق. هذا التخوف البريطاني كانت له مبرراته، خصوصا وأن بريطانيا كانت تخطط وقتها ولعقود مستمرة ومتواصلة، لتقوية حضورها داخل المغرب وإضعاف وجود الدول الغربية الأخرى.

الفرنسيون بدورهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي للرد على هذه الاتفاقية، إذ أرسلت كل من بريطانيا وفرنسا بواخر حربية لترسو في المياه الإقليمية في طنجة، وهو ما اعتبره الأمريكيون تهديدا لهم على إثر الامتياز الذي حازوا عليه من السلطان المولى عبد الرحمن.

 

المولى عبد الرحمن.. مُهندس أول هُدنة مع أمريكا

لكي نفهم سر إقدام المولى عبد الرحمن على منح الأمريكيين هذه الامتيازات على حساب فرنسا وبريطانيا، بموجب اتفاق 1836، لا بد أولا من الوقوف على ملامح من فترة حكمه.

فقد كان المولى عبد الرحمن شديد العداء للفرنسيين خصوصا، واعتبر أنهم معتدون، بحكم التطورات التي عرفتها بلاد الجزائر وتلمسان ومغنية سنة 1830 التي فرضت الاستعمار الفرنسي، وبات يُهدد المغرب أيضا.

فضل المولى عبد الرحمن، الذي كان يُلقب بالسلطان المجاهد، أن يفتح جبهة الحرب مع الفرنسيين فقط، لذلك آثر حفظ الود مع الأمريكيين.

يقول الباحث المغربي عبد القادر القادري، الذي وثق منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لفترة حكم هذا السلطان انطلاقا من الوثائق والمراسلات المكتوبة بالعربية، أي المصادر المغربية على وجه التحديد، (يقول) إن المغرب تعرض لحملة تشويه في الشرق، بسبب الاتفاق بين المغرب وأمريكا، وأغفل المؤرخون في الشرق عمدا، القفز على مواقف هذا السلطان في نصرة المسلمين، قبل الاستعمار الفرنسي وخلاله أيضا، وركزوا فقط على الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان يهدف إلى إبرام تحالف مع أمريكا، بحكم أنها غير مرغوب فيها من طرف فرنسا وبريطانيا.

ومن بين ما ذكره الباحث عبد القادر القادري بهذا الخصوص، في سلسلة من المقالات العلمية، نجد ما يلي: «فمن المعلوم أنه لما غزت فرنسا الجزائر في يوليوز من سنة 1830، بايعت جهاتها الغربية السلطان مولاي عبد الرحمن، فبعث جلالته ابن عمه مولاي علي خليفة عنه إلى تلمسان، ومعه حامية عسكرية من عبيد البخاري، فتعدى إذ ذاك الأسطول الفرنسي لقذف ثغري طنجة والصويرة، محاولا منع المغاربة من التدخل في حرب الجزائر، فاضطر السلطان مولاي عبد الرحمن إلى استرجاع خليفته، وسحب جنوده إلى غربي نهر تافنا، فانتصب الأمير عبد القادر الجزائري إلى محاربة الفرنسيين فأذاقهم الأمرين، ولكنه اضطر في الأخير إلى الالتجاء للمغرب، بعد أن ساقت فرنسا الجيوش العظيمة، وإثر ذلك مد الفرنسيون أيديهم إلى التراب المغربي، فلما بلغ السلطان مولاي عبد الرحمن تعديهم حدود بلاده اشتد به الغضب، وجهز جيشا عظيما أسند أمر قيادته إلى ابنه سيدي محمد، وسار هذا الجيش حتى نزل بإيسلي، وهناك دارت في شهر غشت سنة 1844 معركة عظيمة بين القوات الفرنسية المسلحة خير تسليح وبين الجيش المغربي، الذي كان لا يملك إذ ذاك من المدافع إلا القليل، فدارت الدائرة عليه فاضطر المغرب إلى عقد الصلح مع فرنسا.
هذا ما سجله التاريخ الصادق، ولكن بعض مؤرخي الشرق العربي ينسون كل هذا وينقلون حرفيا ما قاله المؤرخون الأوربيون عنها».

يقول القادري إن سبب تحامل عدد من المؤرخين في الشرق على المغرب في زمن المولى عبد الرحمن، ما يتعلق بكواليس ما وقع للأمير عبد القادر الجزائري. ورغم أن المولى عبد الرحمن قد نصره وراسله عندما حاصره الفرنسيون، إلا أن المؤرخين المشارقة بنوا موقفهم من المغرب وقتها على ضوء الاتفاق مع أمريكا. وظهر لاحقا أن الموقف المغربي كان هو الأسلم في ظل الظروف التي كانت تحكم العالم. إذ إن الولايات المتحدة في ذلك التاريخ كانت تطمح إلى حماية أسطولها البحري، ولم تكن لتتردد في قصف أي دولة يعتدي بحارتها على السفن الأمريكية، حتى لو كان المعتدون من دول أوروبية. كما أن السفن الأمريكية في ذلك الوقت كان يضرب بها المثل في القوة، بحكم أنها كانت تتوفر على قدرات ميكانيكية مهمة تفوقت فيها حتى على بريطانيا، ولم يكن من مصلحة أحد أن تدخل أمريكا الصراع في البحر الأبيض المتوسط. حتى أن هناك باحثين اليوم يؤكدون أن المولى عبد الرحمن جنّب العالم كله الوقوع في حرب عالمية مبكرة، كانت لتتسبب في دمار دول كثيرة، وليس المغرب وحده.

 

«سامتر».. قصة باخرة رست بطنجة في عز الحرب الأهلية الأمريكية

لا يزال الأرشيف الرسمي الأمريكي يحتفظ بوثائق ومراسلات تتعلق بقصة الباخرة الأمريكية «سامتر»، التي رست في ميناء طنجة، وحج المغاربة حرفيا لكي يروها. فقد كانت هذه السفينة المدججة بالمدافع، تابعة للقوات الأمريكية التي تناصر الجنوب، وتحارب القوات الفيدرالية التي تمثل شمال أمريكا، قبل أن تتحد البلاد.

لكن ماذا كانت تفعل هذه السفينة الأمريكية قرب المياه الإقليمية المغربية، في عز الحرب الأهلية الأمريكية؟

اتهم القنصل الأمريكي في طنجة، والذي كان اسمه السيد «براون»، طاقم تلك السفينة بإغراق باخرتين أمريكيتين كانتا تُبحران في مياه البحر الأبيض المتوسط، وهو ما تسبب لأمريكا الفيدرالية في خسائر فادحة.

كان هذا القنصل على علاقة جيدة بخليفة السلطان في طنجة، فاتصل به وطلب منه الوساطة لدى القصر الملكي، لإصدار أمر باحتجاز تلك السفينة التي تحمل طاقما من مناصري الجنوب، بما أنها دخلت المياه الإقليمية المغربية. القنصل اتهم الطاقم بأنهم قراصنة ومرتزقة، بحسب ما تنص عليه الوثيقة، ولم يستبعد أن يستهدف الطاقم سفنا مغربية أو سفن أخرى من دول صديقة للمغرب، أو تجمعه بها اتفاقيات تجارية.

أدى التجاوب المغربي، ممثلا في مبادرة الخليفة السلطاني في طنجة، إلى غضب في كل من فرنسا وبريطانيا. وهو ما نقله القنصل الأمريكي «براون» في رسالة إلى واشنطن، أثنى فيها كثيرا على المغرب وأعلن قائلا إن الأمريكيين لا يجب أبدا أن ينسوا أن المغرب وضع علاقاته مع القوى الأوروبية الكبرى على المحك، من أجل نُصرة أمريكا الفيدرالية.

جاءت سفينة من الولايات المتحدة، على متنها وحدة من قوات الشمال الفيدرالية، ورست في ميناء طنجة وباشرت فورا عملية اعتقال لطاقم السفينة الجنوبية، وأبحرت بهم عائدة إلى واشنطن، حيث نُظمت محاكمة كبيرة للطاقم الذي أغرق السفينتين السابقتين في مياه البحر الأبيض المتوسط.

انتهت الحرب الأهلية الأمريكية بانتصار قوات الشمال وتوحيد البلاد رسميا، وهو ما جعل العلاقات المغربية الأمريكية تزدهر أكثر بعد نهاية الحرب الأهلية، وتُرجم الأمر إلى اتفاقيات تجارية في وقت كانت القوى الأوروبية تتمنى فتح علاقات تجارية مع الولايات المتحدة، خصوصا بريطانيا التي بدأ رعاياها يهاجرون نهائيا صوب الولايات المتحدة.

الأمريكيون لم ينسوا أفضال المغرب عليهم في هذه العملية العسكرية، التي كان لها دور كبير في حسم الحرب الأهلية لصالح أمريكا الفيدرالية وأنصارها السياسيين، وقد ظهر هذا الأمر جليا في الوثائق الدبلوماسية التي ما زالت أصولها موجودة إلى اليوم في مقر المكتبة الوطنية الأمريكية في واشنطن، ومكتبة مجلس الشيوخ الأمريكي الذي تداول نوابه كثيرا في جلساتهم دور المغرب في نصرة تأسيس الولايات المتحدة منذ الاعتراف باستقلالها رسميا إلى المحن الأخرى التي مرت بها، خصوصا المشاكل مع أوروبا التي كان سببها الأساس، عدم تقبل القوى الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حقيقة تأسيس قوة اقتصادية وسياسية أخرى في الجزء الآخر من الكرة الأرضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى