كيف استُعمل المجانين في حروب السلطة والثورات؟
إعداد: يونس جنوحي
«بإغلاق «بويا عمر»، يكون جزء كبير من تاريخ الجنون بالمغرب قد توقف عن الحياة. كيف كان المجانين يعيشون حياتهم في المغرب؟ بل كيف كانت الإعاقة الذهنية ويلا تنزل على ضحاياها ألوانا من العذاب، لتكتب تاريخا سريا لمعاناة المضطربين عقليا بالمغرب سجنوا وكُبلوا وعذبوا، ثم استعملوا في الحروب؟ هذه بعض ملامح التاريخ السري الأسود للجنون بالمغرب».
كيف استُعمل المجانين في حروب السلطة والثورات؟
عندما دخل الحسين الوردي، وزير الصحة، في حربه مع «بويا عمر»، والتي انتهت بإغلاقه رسميا بعد سنوات من الحديث عن الممارسات الغريبة التي تتم داخله، لم يكن ربما يدري أنه يفتح واحدا من الأبواب السرية لتاريخ الجنون والمجانين بالمغرب. ردود أفعال كثيرة واكبت تطورات ملف «بويا عمر»، بين انتقادات وإشادات، لكن النتيجة النهائية، والمتمثلة في إغلاقه النهائي، رجحت كفة الوزير ومساندي قرار الإغلاق.
الحديث عن الممارسات التي كانت تتم داخل هذا المكان، لم تكن سرية. الجميع يعلم أن نزلاءه المساكين، كانوا يكبلون بالسلاسل، وينساهم أهلهم وسط تلك السراديب لأشهر، بل تمتد إلى سنوات. لا يمكن أن يكون التكبيل بالسلاسل هو العلاج الأنجع لشفاء النزلاء من اضطراباتهم النفسية أو العقلية على كل حال.. من أين جاء تقليد التكبيل بالسلاسل؟ وكيف أصبح الحمقى والمجانين والمرضى النفسيون نزلاء على ضريح «بويا عمر»، أو الأماكن التي سبقته إلى الوجود، والزوال أيضا؟
النبش في تاريخ الجنون بالمغرب لم يكن سهلا، لأن الذين كتبوا عنه، في أفضل الحالات، لم يشيروا إليه إشارات صريحة إلا في مرات قليلة، وهكذا كان لزاما البحث عن مصادر كثيرة للخروج بمعلومات قليلة، لا تتعدى في بعض الحالات إشارات محتشمة إلى ظاهرة الأمراض النفسية والعقلية لدى بعض المغاربة، قبل قرون من اليوم.
سنبدأ من الفترة التي كان فيها الحديث عن المجانين بالمغرب واضحا، وهي الفترة التي سبقت تاريخ فرض الحماية بسنوات قليلة. بعد القصف العسكري الفرنسي الذي تعرضت له مدينة الدار البيضاء سنة 1909، حلت أفواج جديدة من فرنسا بعد تلك الضربة العسكرية، بهدف إنشاء حياة جديدة للفرنسيين بالمغرب.
خلال هذه الفترة، انتبه البعض إلى أن الحالة الاجتماعية للدار البيضاء بعد القصف كانت مزرية، وأن المتشردين كانوا يملؤون جنباتها ومنازلها الخربة التي كانت تحمل آثار القصف، ولو بعد مضي أشهر على تلك الضربات العسكرية، وشروع فرنسا في تأسيس حياة جديدة بالدار البيضاء.
سنأتي في هذا الملف على تفاصيل وضعية المجانين في تلك الأيام العصيبة. إذ إن صاحب الكتاب الذي سنأتي على ذكره أيضا، يقول: «الدار البيضاء بالنسبة إلي أرض جديدة لأبدأ فيها حياة جديدة. نصحوني في فرنسا ألا أبادر إلى اختيار الإقامة في المغرب، لأن فرنسيين قبلي ماتوا هناك. لكني لم أعر الأمر أي اهتمام. فرصة كهذه لا تعوض، وليس لدي شيء لأخسره. لذلك وجدتني من الذين شدوا الرحال للنزول جميعا في ميناء الدار البيضاء ذات يوم ربيعي من سنة 1909، لكني صدمت من حجم الدمار الذي يعشش في جنبات هذه المدينة التي سمعت وقرأت عنها الكثير.
فرنسا، التي أنتمي إليها، استغلت الاعتداءات التي تعرض لها مواطنون فرنسيون في الدار البيضاء، لتختار الرد العسكري لإنهاء الثورة التي قادها مغاربة محليون على الوجود الأجنبي.. هذا لم يمنعني من اتخاذ قرار المجيء إليها والاستقرار بها بعد الضربة العسكرية.. (..) وجدت أن المغاربة يعانون الجوع هنا، ولم يعد هناك فرق بين الناس العاديين والمتشردين ولا حتى المجانين. الكل يعاني من الجوع والمرض، والمنازل القليلة التي بقيت صامدة في وجه القصف المدفعي الفرنسي تشهد صراعا كبيرا حول الظفر بها.
رأيت المجانين على جنبات الطرق يحملون جروحا خطيرة، ويهملون مظهرهم ويتبولون في ملابسهم، ويأكلون أي شيء يجدونه أمامهم، وعندما ينتبه أحد إلى وجودهم، فإنهم يتعرضون للضرب والرفس والركل بالأرجل، حتى يغادروا المكان..».
هذه صورة صغيرة تقرب من الواقع الذي كان يعيشه المضطربون عقليا في المغرب، خلال فترة الحماية الفرنسية.
لنعد الآن إلى ما قبل ذلك التاريخ بعقود أخرى، وبالضبط إلى الفترات التي كان فيها المغرب تحت حكم المولى إسماعيل، وكانت الدولة المغربية في صراع حقيقي مع الزوايا. هذا الأمر لا تنكره حتى كتب التاريخ الرسمي الذي اعتمد أصحابه في تدوينه على المصادر الرسمية والرسائل الصادرة عن القصر الملكي. شهدت العلاقات بين القصر والزوايا اضطرابات كثيرة، بسبب خلخلة المشهد السياسي بالمغرب بعد التوترات الاجتماعية والاقتصادية.. حيث عمدت بعض الزوايا إلى تأجيج الغضب الشعبي على سياسة الدولة الضريبية، وهو ما جعل الزوايا وأتباعها محاصرين في مرات كثيرة.
بعض الزوايا، كانت تعتبر ملجأ للمشردين والمجانين الذين لم يكن ممكنا اندماجهم مع الحياة، وقد تم استعمالهم في مظاهر الاحتجاج التي عرفها المغرب خلال فترة حكم المولى إسماعيل. لا توجد إشارات مباشرة إلى هذا الأمر، لكن الأكيد، من خلال مصادر تاريخية كثيرة، أن الزوايا لم تكن تتردد في استعمال أتباعها لفرض رأيها على الدولة، قبل أن تتدخل القوة لردعها. الزوايا استعملت حشودا من الغاضبين الذين وفرت لهم الملجأ والطعام حتى تضمن ولاءهم، ولإثارة الفوضى، فقد استعملت المجانين الذين كانوا لا يميزون أي شيء ولا يعرفون أطراف الحرب التي استعملوا فيها.
لم يكن الحديث عن إيواء المجانين رسميا، لكن الزوايا كانت بالفعل مقرا رسميا لهم، وكلما أرادت الزوايا الاحتجاج، كانت تطلق سراحهم ليحولوا التجمعات السكانية إلى فوضى حقيقية، ليشكلوا تاريخا قديما لمغاربة كانوا يعانون اضطرابات عقلية ونفسية خطيرة، يستعملون كسلاح لتعزيز الحشود أيضا..
توجد إشارات إلى أن الثائر الشهير «بوحمارة» قد لجأ في ثورته إلى استعمال المجانين والمضطربين عقليا في حملته، ووضعهم على رأس مسيرة طويلة إلى فاس.
لنعد الآن إلى ما كان يُمارس في «بويا عمر». ستجدون أن جذور التعامل القاسي مع المرضى النفسيين، تجد لها أصولا عميقة في تاريخ الجنون بالمغرب.
صحيح أن أهل الاختصاص لم يفردوا دراسات تاريخية عميقة عن المجانين والأمراض العقلية والنفسية بالمغرب، لكن الأكيد أن تاريخ المغاربة حافل بمظاهر كثيرة تؤكد أن المرضى العقليين، عاشوا تاريخا كالحا، بل شديد السواد..
قصة مجنون فاس الذي قتل يهوديا وأجج الناس ضد الفرنسيين
لعل واحدة من أبرز قصص المجانين في المغرب، كانت في مدينة فاس، في سنوات مبكرة بداية القرن الماضي. جاء ذكر صاحبها في مصدرين تاريخيين من أدب الرحلة، وهو ما يعني أنه كان رمزا من رموز نواحي فاس، لكنه لم يرق إلى مرتبة «الأولياء» المشاهير، لأن الكثيرين نعتوه بالجنون..
الرحلتان، وإحداهما تحمل عنوان «رحلة في مملكة المولى الحسن 1887-1844»، جاءتا تقريبا في فترة انتقال الحكم بين أبناء المولى الحسن الأول، تقولان إن رجلا غريب الأطوار كان يقيم في تجمع سكاني صغير على مشارف مدينة فاس، استنتجا جنونه، واضطرابه العقلي، انطلاقا من الطريقة التي كان يقف بها على جانب الطريق التي يمر منها كل داخل إلى فاس، من اتجاه مراكش.
كان يقف شبه عار، إلا من أثواب تغطي عورته، ويحمل في يده عصا، وغالبا ما يتحلق حوله الأطفال الذين كانت رؤوسهم حليقة بطريقة غريبة. كان يوقف المارة ويمنحونه بعض ما كانوا يحملونه معهم. في المرات القليلة التي كان أحدهم يمتنع عن تلبية طلبه، يبدأ في تلاوة أدعية قاسية ويتوعد المارة بعقاب إلهي وشيك إن هم منعوا عنه العطاء. لكن أخطر المشاهد، تتمثل في كونه كان يحرض الناس ضد اليهود، والأوربيين وينعتهم بأنهم أعداء الله.
في إحدى الكتابات القديمة التي تجمع غرائب المغرب التاريخية، والتي كانت عبارة عن مخطوطات جمعتها المكتبة الوطنية في أرشيفها، تجد إشارات كثيرة إلى مجانين تلك المرحلة، والوارد أن تطابقا غريبا، يأتي بين ما تجمعه المصادر المحلية والأجنبية حول قصص شبيهة لأناس، يبدو أن عقولهم لم تكن سليمة، لكنهم حازوا تقدير الناس وكانت شعبيتهم أكبر من تهتز بسبب الجنون، بل كان الناس ينظرون إليهم كمصادر للتبرك.
الشخص الذي تتحدث عنه هذه المصادر في إشارات متفرقة، كان وراء حادث عنيف راح ضحيته أحد اليهود المغاربة. كان يمر بمحاذاة الطريق يقود حمارا منهكا للوصول إلى فاس. ما إن رآه المجنون حتى وقف وطلب منه أن يمنحه أي شيء مما يحمله، لكنه أقسم أنه لا يحمل معه أي شيء، وأنه لم يأكل منذ أيام بسبب الجوع، فبدأ يسبه.. ولأن هيأة لباسه تحيل على أصوله اليهودية، فقد بدأ «المجنون» في سب اليهود وحرض ضده بعض الأطفال، وسرعان ما تحول الأمر إلى رشق بالحجارة شارك فيه أطفال آخرون خرجوا من المنازل، إلى أن سقط الرجل مغشيا عليه وسط بركة من الدماء ليفارق الحياة هناك.
الذين كانوا يمنحونه المال، كانوا يشترون «السلم»، على حد تعبير إحدى الروايات التي تناولت قصته. لكن المثير أن الروايات المحلية التي أوردها مؤرخون ومؤلفون مغاربة تطرقوا لتاريخ مدينة فاس، أو تاريخ الزوايا عموما، لم تنعته بالجنون، بل وصفته بأنه واحد من المجاذيب، أو «أهل الله» الذين يكتنفهم غموض شديد، لأنهم اعتمدوا نمط عيش معين، يجعلهم تائهين في الأرض زاهدين في الحياة واللباس والملذات، ويتفوهون بالحِكم والأشعار التي سرعان ما يتناقلها عنهم الناس.
على عكس الروايتين الأجنبيتين، اللتين أكد أصحابهما أن الشخص الذي تحدثوا عنه، مجنون. استنتاجهما سببه طريقة لباس الرجل وإهماله لمظهره، حتى أن أحد الأوصاف التي قدمت بشأنه قدمته على أنه رجل مرعب. إذ تتحدث عن شخص يحتمل أن يكون في عقده الخامس، شبه عار، يغطي عورته بثوب مثقوب بينما صدره عار طيلة السنة وفي جميع الفصول. قدماه حافيتان، وأظافر قدميه مفقودة، أو معوجّة، بينما أظافر يديه بدأت في التلولب لإفراطها في الطول. لحيته مبعثرة، وليست مكتملة، بل تنمو بشكل عبثي فوق وجهه بشكل يجعلها غير متساوية. واستنتجوا أنه لم يلامس الماء ربما لسنوات، وذكروا أنه متعلم لأنه كان يخط كتابات على الأرض بين الفينة والأخرى، ويلقي الشعر على قارعة الطريق في مناسبات كثيرة.
حسب المصادر نفسها، فإن هذا الرجل سبق له أن حرض الناس ضد بعض الأوربيين «النصارى» الذين كانوا يتجولون في فاس، فترة قصيرة قبل فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912. لكن هؤلاء بدل أن يكتفوا بالتجول داخل أحياء فاس وأزقتها، خرجوا إلى الحقول المحيطة بالمدينة، واستمروا في جولة على ظهور الخيل إلى أن حلوا بالمكان الذي يوجد به «صاحبنا»، وكان كافيا أن ينعتهم بأعداء الله لكي يشرع الناس في رجمهم بالحجارة، ولم ينقذهم إلا بعض الأعيان الذين كانوا يمرون في اللحظة ذاتها من الطريق المؤدية إلى فاس، ويبعدوا عنهم الجماهير التي تحلقت حولهم.
بوحمارة والمجانين.. أشهر مسيرة للمغاربة المختلين عقليا!
في نفس الفترة الانتقالية للحكم في المغرب، حيث رصدنا قصة «مجنون» فاس، الذي نعته الأجانب وحدهم بالجنون، فيما تحفظت المصادر الوطنية على إطلاق الصفة عليه وعلى أمثاله ممن عاشوا حالات نفسية واجتماعية متفردة في تاريخ مدينة فاس، كان هناك مجانين آخرون شكلوا نسبة مهمة من الجحافل البشرية التي قادها الثائر «بوحمارة» نحو فاس في محاولة منه للانفراد بالحكم.
كُتب الكثير عن قصة بوحمارة وما إن كان ثائرا أو متمردا أو مثيرا للفوضى.. لا يهم. المهم أنه استغل بعض المجانين ليكونوا شريحة مهمة من الجحافل البشرية التي قادها في خط بشري طويل وصولا إلى فاس.
أحد العاملين في السلك الدبلوماسي الألماني، واسمه «فرانك»، خرج من مقر عمله في طنجة التي اشتغل بها منذ سنة 1989 ولم يرحل عنها إلا سنة 1910، بعد أن تقاعد من عمله وبقي في طنجة لسنوات قبل أن يقرر الرحيل نهائيا إلى بلاده.
«فرانك»، قرر أن يشد الرحال ليستكشف منطقة الشمال بحثا عن لقاءات مع القبائل. للأسف، لا توجد نسخة كاملة لنص مذكرات هذا الموظف الألماني، كما يشير إلى ذلك الأرشيف الإلكتروني لإحدى المكتبات المتخصصة، لكن دراسة تاريخية أفردت بعض ملامح مدينة طنجة خلال تلك السنوات، وأشارت إلى هذا الموظف الألماني، مستغلة بعض الأوراق السليمة من أرشيفه، الذي يوجد الآن في ملكية جامعة ألمانية تسلمته من أحفاد «فرانك» بتوصية منه قبل وفاته. يقول فرانك إن الجولة التي قرر خوضها تزامنت مع عدم استقرار سياسي في المغرب، ويقصد بذلك انتقال الحكم في المغرب بعد انتهاء فترة عبد العزيز ابن المولى الحسن. كان فرانك يرمي، كما يقول إلى لقاء «الريسولي» أحد أشهر رجال منطقة الشمال وأكثرهم تأثيرا، لكنه ضل الطريق ليسلك طريقا آخر عرج به جنوبا بدل أن يستمر في الاتجاه نحو الشرق، وهناك صادف موكبا طويلا من الرجال والنساء، من بينهم أناس في هيئات غريبة وثياب رثة، يمسكون في جلاليب بعضهم البعض ويمضون في صف طويل يحرسه من كل جانب، مجموعة من الجنود الممتطين لخيولهم.
لم يجد فرانك إذن بدا من التوقف إلى أن يمر الموكب، لكن الجنود الذي لمحوه سرعان ما ألقوا عليه القبض ليحيلوه إلى «بوحمارة» نفسه، ويدخل عنده معرفا بنفسه، وبصفته الدبلوماسية بلغة عربية ركيكة تعلمها نتيجة اشتغاله لسنوات طويلة في عدد من الدول العربية في الشرق، قبل أن يتم تعيينه في المغرب في آخر سنوات مساره المهني الحافل. لم يستمر لقاؤه بزعيم الموكب إلا دقائق قليلة، نصحه فيها بالعودة إلى طنجة، ويخبره أنه غير مسؤول عن أي أذى قد يتعرض له في طريق العودة.
يقول إنه انتبه إلى أن هؤلاء المجانين كانوا يتقدمون الموكب، كما لو أنهم كانوا درع حماية للرجال الذين أتوا خلفهم مباشرة. بعضهم كانوا يتحركون بشكل هستيري، فيما آخرون كانوا يحكون رؤوسهم ويلتفتون ذات اليمين والشمال ويتقفون بين الفينة والأخرى عن السير قبل أن يشير إليهم أحد الجنود الذين يحرسونهم، بمواصلة المسير.
المؤرخون المغاربة أشاروا إلى أن بوحمارة استعمل الناس في ثورته لاستعراض شعبيته، وهو ما يرجح أن يكون فعلا قد تم استعمال المجانين في تلك المسيرة التي كاد من خلالها بوحمارة أن يؤزم الوضعية السياسية في المغرب، خصوصا وأن التاريخ الرسمي، ككتاب «تاريخ الدولة السعيدة» الذي اعتمد على الرسائل الرسمية للقصر الملكي، يقول إن «بوحمارة» تسبب في فتنة حقيقية بالمغرب، وإن الجيش المغربي واجه صعوبات كثيرة في مواجهته، وإن الحرب عليه أطاحت برأس أحد كبار رجل المخزن، ويتعلق الأمر بالوزير المنبهي الذي جمع بين الخارجية والدفاع، عندما كانت وزارة الدفاع تسمى وزارة الحرب، حيث وضعه المولى عبد العزيز أمام واقع صارم، قرن فيه بقاء المنبهي في منصبه بزوال بوحمارة، ولما فشل المنبهي في إسقاط بوحمارة، أو إضعافه حتى، فإنه فهم الأمر بسرعة وانسحب ليترك المجال لمن خلفه على رأس الجيش المغربي، وتنتهي الأمور إلى وقف زحف بوحمارة.. هذا الأخير الذي قطع مئات الكيلومترات، سيرا على الأقدام معتمدا على المجانين، في دعم ثورة من الأتباع الذين لم يتوقفوا إلا في العاصمة.
مجانين احتموا بالزوايا وآخرون رُبطوا إلى الأشجار حتى يأمن الناس شرهم
الزوايا، كانت مقرا رسميا لأقدم المجانين المغاربة قبل حتى أن يوجد «بويا عمر»، الذي أغلقه، أخيرا، وزير الصحة. الحديث عنها في وقت مبكر من حكم الحسن الأول، كان مثيرا للرعب في نفوس الكثيرين، نظرا للظروف السياسية التي كانت تمر منها البلاد منذ أزيد من مائة سنة قبل ذلك التاريخ.
منذ أيام المولى إسماعيل، اشتهرت الزوايا بأنها كانت مصدرا مباشرا للمشاكل التي غرق فيها المغرب في صراعاته مع المخزن. إلى درجة أن بعض الزوايا المتمردة فرضت عليها عقوبات لتأديبها وجعلها تدخل في صف الزوايا، التي تضبط بها الدولة استقرار المناطق التي يتحكم رموز تلك الزوايا في سكانها.
بقيت الزوايا على حالها خلال تلك الفترة، ملجأ للذين لا منازل تؤويهم، وكان أغلبهم من المجانين الذين يهيمون في الأرض ويتقفون للاستقرار عند أول زاوية يجدونها في طريقهم. حتى أن أحد أشهر وسائل الجذب التي وفرتها الزوايا للناس، هي توفير المأكل والمشرب في أحلك الظروف والأزمات الاقتصادية وسنوات الجفاف التي مر منها المغرب قبل الحماية الفرنسية.
دخل المجانين في خانة «الغرائبيات»، ولم يكن هناك حديث عن إعاقة ذهنية، أو أمراض نفسية، حتى لدى أعقل المؤرخين المغاربة، بل كان الحديث مقتصرا على «أناس غريبي الأطوار» يعيشون على هامش الزوايا والأضرحة وينزلون إلى الأسواق بين الفينة والأخرى، ليمارسوا هواية التسول واستجداء الناس. هؤلاء، كانوا يصرفونهم ويطردونهم فور رؤيتهم لأنهم كانوا غير مرغوب فيهم، وحتى عائلاتهم، كانت ترى فيهم عبئا ثقيلا يجب التخلص منه، لتتكفل بهم الأضرحة والزوايا في الأخير، لكن في ظروف لا تراعي وضعيتهم ولا احتياجاتهم.
في تقرير إدمون دوتي، الذي يعد أول تقرير اجتماعي واقتصادي كُتب عن المغرب عقودا قبل الاستعمار الفرنسي، والذي جاء في سياق معروف يتعلق بإعداد فرنسا لدراسات اجتماعية عن المغرب، قبل الشروع في بسط نفوذها عليه، كانت هناك إشارات محتشمة إلى المجانين، وبدا أن وجودهم بالمغرب لم يعرف أي تطور منذ أيام المولى الحسن، على الرغم من الظروف الكثيرة التي مرت منها البلاد.
إدمون دوتي قال إن هناك مجانين مغاربة يعانون اضطرابات عقلية، يتجولون بشكل عادي بين الناس، ولا يوجد مكان يوفر لهم الرعاية الضرورية لحالتهم النفسية أو العقلية.
مستكشف أوربي آخر، هو جي.بي ستيوارت، كما يكتب اسمه اختصارا على كتاب يحمل مذكراته، وهو طبيب أقام في المغرب ما بين سنتي 1830 و1900، تحدث في بعض مقاطع كتابه المتكون من خمسة محاور تتناول حياة المغاربة في ذلك الوقت، عن المجانين ووضعيتهم. يقول ما مفاده إنه رأى ذات مرة في الطريق الرابطة بين العرائش وطنجة، رجالا عراة مربوطين إلى شجرة على قارعة الطريق، في انتظار بعض حراس الحقول لحملهم إلى مكان آخر. السبب وراء ربطهم هناك، أنهم «مجانين» من شأنهم أن يهددوا السلامة الجسدية للأطفال والنساء اللواتي يأتين إلى أحد الوديان لجلب الماء. كانوا مربوطين لساعات طويلة، إلى أن جاء بعض الشبان الأقوياء، ليقتادوهم إلى مكان آخر، لم يذكره صاحب الكتاب، لإبعادهم عن الطريق.
هكذا كان حمقى الحماية الفرنسية بعد قصف الدار البيضاء سنة 1909
ظل المجانين رهائن في الطرقات وعلى قارعة الطريق إلى وقت قريب. في اليوم كما في الأمس، تنتشر صور كثيرة لمجانين مشردين يتجولون في المدن والقرى. والحقيقة أن الظاهرة ضاربة في القدم.
أحد الفرنسيين «J. Du bois» ممن عاشوا في المغرب مباشرة بعد قصف فرنسا للدار البيضاء سنة 1909، قال إنه رأى الكثير من المجانين في الدار البيضاء ذلك الوقت.
في كتاباته التي تصور المغرب كدولة تعيش على أنقاض حرب فرنسية أدت إلى استعمارها، يحكي كيف أنه أصيب بالرعب عندما نزل في ميناء الدار البيضاء للمرة الأولى في حياته، ليشكل واحدا من الفرنسيين الكثيرين الذين جاؤوا إلى المغرب للاستقرار، بعد أن وعدتهم الحكومة الفرنسية بامتيازات إن هم انخرطوا في تعزيز سياستها الاستعمارية، وتأسيس حياة جديدة للفرنسيين بالمغرب.
آثار قصف سنة 1909 كانت واضحة كما يقول السيد دي بوا. لاحظ وجود كثير من المتشردين والفقراء، لكن منظرهم كان مقبولا مقارنة مع بعض المضطربين عقليا. «دي بوا» وصفهم هنا بالمضطربين عقليا، واستعمل كلمة «الإعاقة الذهنية أيضا» لوصف حالتهم النفسية والعقلية، بدل كلمة المجانين التي استعملها آخرون في مصادر تاريخية كثيرة.
منظر هؤلاء المضطربين عقليا، حسب الكاتب، كان مرعبا لأنهم كانوا يحملون آثار التهابات جلدية خطيرة، وأغلبهم كانوا يسيرون بين المنازل شبه عراة، ويصرفهم الناس بعنف حتى لا ينقلوا إليهم العدوى. يقول: «لقد رأيت بالأمس رجلا مختلا عقليا يتعرض لوابل من الشتائم وجهها إليه مغاربة احتجوا على دخوله إلى أحد الأزقة التي يعرض فيها الباعة سلعا للبيع وسط الدار البيضاء. ولم ينجحوا في طرده إلا عندما تدخل أحد الشبان الأقوياء، ليوجه إليه ضربات بعصا رقيقة، ويطارده حتى يبتعد عن المحلات. كانت هناك أشياء غريبة تحيط بعيني هذا الرجل المختل، ولم يكن يتمشى بطريقة عادية، بل كان يحرك قدميه بصعوبة، وما تبقى من ثيابه الممزقة كانت تحمل آثارا رطبة، تدل على أنه يقضي حاجته في ملابسه».
بالعودة إلى الجو العام في الدار البيضاء ذلك الوقت، تقول هذه الشهادة النادرة إن بعض المنازل كانت لا تزال تحمل آثار القصف الذي تعرضت له الدار البيضاء على أيدي القوات الفرنسية، كما أن آثار الحرائق كانت بادية على المحلات التجارية التي كان يملكها الفرنسيون قبل القصف. في بعض الخرب المهجورة، كان يقيم بعض المتشردين، ومن بينهم مجانين، لكنهم كانوا يبيتون ليلهم منفردين ولا يختلطون بالذين تقطعت بهم السبل بعد أحداث 1909.
لم يكن مسموحا للمجانين بالاختلاط بالآخرين حتى لو كانوا يشاركونهم نفس المصير والوضع الاجتماعي الصعب.
السبب حسب الكاتب، يعود بالأساس إلى أنهم كانوا عبارة عن أمراض معدية خطيرة متنقلة. ولا يبدو الأمر، حسبه دائما، مبالغا فيه، لأنهم كانوا يحملون آثار تعفنات والتهابات خطيرة يكفي أن يلامسوا أحدا لينقلوا إليه المرض بكل سهولة.. لذلك كان يتجنبهم الناس ويتقززون منهم.
لا شك أن وضعية المجانين المغاربة بقيت على حالها فترة طويلة بعد سنة 1909 وحتى بعد خمسينات القرن الماضي، التي عرفت نهاية الحماية الفرنسية بالمغرب، لكن الأوضاع كانت لتتغير بعد أن فتحت المستشفيات لعلاج المغاربة عموما، وانخراط الدولة في تأسيس المؤسسات الاجتماعية، لكن المجانين بقوا في شوارع المملكة على كل حال.. قرار إغلاق «بويا عمر»، هو أحدث تحول في تاريخ المضطربين عقليا بالمغرب، بشكل يجعل احتواء الإعاقة الذهنية يحتاج إلى مزيد من الدراسات، رغم مرور عقود طويلة من تعاطي المغاربة مع هؤلاء الذين نسميهم «مجانين».