كيف أزكي شخصا مشبوها؟
ذات يوم طلبني «أبو أيمن» على عجل إلى مكتبه، فهو لم يعد يأتي إلى الكاريان.. استقبلتني الكاتبة وطلبت مني انتظار الأستاذ حتى ينتهي من مقابلاته.. تذكرته عندما كان يزورنا في الكاريان.. كنت معجبا به.. وبجسارته.. وبدماثة خلقه.. هو من عمل على استمالتي إلى عالم الإخوان..
انتظرته قرابة الساعة.. كان في ما مضى قريبا مني.. بابه بجانب بابنا.. يكفي أن أنادي عليه حتى يخرج ملبيا.. الآن أجد صعوبة بالغة في الحديث معه.. أو الاتصال به.. قضينا ساعات طوال في الحديث عن العمل الإسلامي.. وأحوال الأمة.. واختلافاتها السياسية والفقهية…
مرت دقائق قليلة على الساعة.. سمعته ينادي علي من داخل مكتبه.. وبعدما سلم علي.. وتعانقنا كالعادة.. قال لي:
ـ أهلا بأخي فلان.. كيف حالك.. أبليت البلاء الحسن في الكاريان.. لم تخيب ظني أبدا.. نعم الأخ أنت.. يذكرك الإخوان دائما بخير.. قل لي كيف تسير الأمور عندكم؟
ـ الحمد لله.. الكاريان أصبح «جمهورية إسلامية».. (ضحك أبو أيمن بصوت عال ربما سمعه كل من يوجد في المكان)
ـ هذا بفضل مجهوداتك الدعوية.. وأيضا باقي الإخوان والأخوات.. وبفضل مجهودات أختي «فاطمة».. فهي نشيطة جدا..
ـ نعم.. لكن الفضل كله يرجع إليك، فأنت أول من أدخل العمل الإسلامي إلى الكاريان.. من أيام «الشبيبة»..
قطع كلامي مبتسما وموجها بصره إلى ملفات ملونة أمامه:
ـ طلبتك إلى مكتبي لأني أعتبرك صديقا لي.. وأيضا أنت أخ لي في الدين.. أريد منك أن تدعم «حسن» في الانتخابات الجماعية.. هذا عمل هام جدا.. وشديد الخطورة.. فهو بوابتنا نحو التسرب إلى مؤسسات المجتمع السياسي.. للتأثير عليها.. وتوجيهها نحو تدبير أفضل وأحسن.. بطبيعة الحال وفق دين الله.. وشريعته التي سنها للناس..
أجبته بصراحة:
ـ لا أعتقد أن مشاركتنا السياسية ستكون لها فائدة.. فالمخزن يقظ للغاية وعلى علم بنوايانا «الدعوية».. وسيقف حاجزا أمام طموحاتنا السياسية..
نهض «أبو أيمن» من مكانه.. وبدت على وجهه بوادر الغضب.. قال بعد أن سكت هنيهة: مسألة ترشيح «الأخ حسن» أصبحت الآن أمرا واقعا.. وما علينا إلا الامتثال لرأي الأغلبية داخل التنظيم.. وعليه، فإنك ملزم بالتعاون مع جارك «حسن»، فأنت «دينامو» فعال داخل الكاريان.. وإذا رآك الناس مترددا في دعم مرشحنا، فسيكثر القيل والقال.. ونُهْزَم في هذه المحطة الضرورية في مسيرتنا الدعوية..
ـ كما تريد أخي «أبو أيمن».. سأعمل كل ما في وسعي لإنجاح هذا الأمر..
خرج معي «الأستاذ» إلى باب المكتب.. ثم ودعني بالضرب على الظهر.. والكتف..
لم يستسغ بعض «الإخوان» في بداية الأمر مسألة المشاركة السياسية لجماعتهم.. فانتبه «القادة» إلى أنه من الضروري فتح نقاش في الموضوع على مستوى «القاعدة».. لا بد من إقناع المترددين بواجب المدافعة السياسية، فالأتباع يعانون من نقص حاد على مستوى «السياسة الشرعية».. تحرك «الزعماء» لتأطير «المريدين».. نزلوا إلى «الأسفل».. أقاموا الجموع العامة.. وزعوا علينا «الأوراق».. استعانوا بالفقهاء القدامى والمحدثين و«المقاصديين».. من داخل المغرب وخارجه.. لإقناعنا بأن المشاركة السياسية واجبة.. وأنه ليس من الدين في شيء أن يتخلف المؤمن عن تقلد المسؤولية.. بل طلبها والسعي إليها إذا اقتضى الأمر ذلك.. وإذا رأى أحد في نفسه أنه مؤهل لذلك، فمن الواجب عليه أن يحرص على طلب الرياسة.. استعان «القادة» بمنظري «الإسلام السياسي»..
قال لنا «المقاصديون»: إن «يوسف» عليه السلام لم يتوان في طلب المسؤولية عندما قال لملك مصر:
ـ بسم الله الرحمن الرحيم: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) صدق الله العظيم (يوسف الآية 55)..
اقتنعت الأغلبية بأنه لا مفر من خوض غمار السياسة.. والتنافس مثل باقي الأحزاب السياسية على مقاعد المجالس المحلية.. والبرلمانية.. والحكومية..
سألت ذات يوم أحد «المنظرين»:
ـ لماذا تصرون على الدخول إلى البرلمان؟؟
قال «القيادي» المتكبر، في عنجهية وزهو معهودين بنفسه:
ـ لنقوم بالدعوة إلى الله هناك؟؟
كذب صاحبنا.. دخل البرلمان.. وما زال يمكث فيه.. ولم أسمع يوما أنه «أمر بمعروف» أو «نهى عن منكر».. أو دعا إلى فضيلة.. أو قاوم فسادا.. أو قاوم قرارا فيه انتهاك لشرع.. أو نبه إلى حرام.. كل ما رأيته منه أنه ازداد بسطة في الجسم والمال.. ونضارة في الوجه.. وتأنقا.. وفصاحة.. وحاز تكبرا فوق تكبر..
نسي صاحبنا أن «الدعاة» إلى الله لا يسألون الناس أجرا.. ولا مالا.. ولا سيارة.. ولا منحة شهرية فوق الأجر.. ولا سفريات.. ولا إكراميات ولا وساطات.. لم يغتنوا أبدا مقابل عملهم في سبيل الله.. أخبرنا «المنظرون» بما فعله «يوسف» عليه السلام، وهو نبي ورسول مؤيد بالوحي.. ولم يدلونا إلى ما قاله «نوح» و«هود» و«صالح» و«شعيب» في سورة الشعراء: باسم الله الرحمن الرحيم: (وما أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على رب العالمين) صدق الله العظيم..
قلت لقائدنا المعجب بنفسه:
ـ رسولنا الكريم رفض أن يقلد صحابيين المسؤولية لأنهما طلباها وحرصا عليها..
رفض أن يكمل معي النقاش.. لأنه يفقد أعصابه أثناء الحوار.. ويفور دمه.. ويزداد ضغط الشرايين لديه، فيحتاج في النهاية إلى الدواء.. ونهاية القول لديه إنه لا وقت لديه لإهداره في التفاهات.. لقائي الأخير بـ«أبو أيمن».. وما دار بيني وبينه بخصوص ترشيح «حسن» للانتخابات.. وتوجيه أمر مباشر إلي بدعمه دون وجود أدنى مجال للنقاش في الموضوع.. كل هذه الأشياء جعلت الشكوك تتسرب إلى قلبي..
هل فعلا نحن نعمل من أجل إقامة دين الله في الأرض؟
بدأت أرتاب من العمل الإسلامي.. هل انتميت إلى «الجماعة» من أجل الدعوة إلى الله.. أم لخدمة أهداف سياسية لا علم لي بها.. ولا بحيثياتها.. ولا بأهدافها؟
هل مجهوداتنا الدعوية داخل الكاريان.. وكل المعارك الفكرية.. والفقهية.. والعقدية.. والمذهبية.. التي خضناها ضد اليسار.. والعلمانيين.. وضد باقي الفصائل الإسلامية.. هل كل ذلك سنوظفه الآن لإنجاح جارنا «حسن» في الانتخابات؟
أدهى من ذلك أن مرشحنا لا يعمل في التنظيم.. له سوابق عديدة.. آخرها أنه اشتهر بالارتشاء.. وهو الآن خاتم في الإصبع الصغير لزوجته المتسلطة.. كيف أقنعُ ناس الكاريان بأن هذا هو الشخص المناسب لهم ليمثلهم في مؤسستهم المنتخبة؟ كيف أدافع عن شخص وأنا غير مقتنع به تماما؟؟ هل أمتثل لأوامر التنظيم.. أم أخضع لمبادئي التي ضحيت من أجلها طول حياتي؟
لم يكن «حسن» أحسن من الفقيه «بوشتى».. أو الصوفي ذي اللحية البيضاء.. أو الشريف «دحمان».. أو الفقيه «البودالي».. أو الخياط «علال».. أو المقدم «شقيفة»…
اعتقدت زمنا أني انتميت للحركة الإسلامية لأصارع الفساد.. لأغير واقع باديتي.. والكاريان الذي عشت فيه.. كنت أبحث عمن يناصرنا ضد الرموز الفاسدة.. كيف قاومتهم سنوات عديدة وأنا الآن أزكي «حسن» وهو لا يفضل هؤلاء في شيء؟؟
كيف أسير في دروب الكاريان وأدعو الناس إلى التصويت على رجل أقل ما يمكن أن أقول عنه إنه شخص «مشبوه»؟؟
أصبت بأزمة نفسية حادة.. شعرت وكأن «أبو أيمن» أفرغ على جسدي كله دلوا باردا من الماء.. كاد أن يقضي على تلك الجذوة.. أو تلك الشحنة.. التي جعلتني أقاوم كل هذه السنين في سبيل تغيير الواقع الذي أعيش فيه..
هل هذا هو «أبو أيمن» الذي كان قدوتي في هذه الحياة.. أصبح الآن رجل سياسة بامتياز.. إن العقد الذي جمعني بهذا الأخ هو «نصرة» دين الله.. وإقامة مجتمع «إسلامي» تسود فيه الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية.. أي عدل هذا !!.. وأي تنمية هاته التي نرشح فيها شخصا مثل «حسن» !!
رجعت إلى الدار محبطا.. اتصلت بي «فاطمة» أيضا تطلب لقائي.. التقيتها في مقر جمعية العمل الاجتماعي.. استدعتْ كل أعضاء الجمعية والمتعاطفين معها للقاء عام.. أغلبهم ينتمون إلى «الجماعة».. قالت «الأخت» المصونة.. المحترمة.. القيادية في التنظيم:
(إخواني.. أخواتي.. نمر الآن بمرحلة صعبة في تاريخنا.. هناك حرب خطيرة تدور رحاها في العالم بين المتدينين واللامتدينين.. بين الإسلام وبين أعدائه.. نحن الآن في طليعة من يدافعون عن دين الله.. وإذا قضي على هذه الفئة التي لم تنقطع من الأرض منذ بداية الإسلام على الأرض.. فلن يعبد الله في أي مكان.. في الأيام المقبلة ستعرف بلادنا استحقاقات هامة على الصعيد الوطني.. إنها الانتخابات الجماعية.. وهي انتخابات في غاية الأهمية.. تعرفون إخواني.. أخواتي.. أن من يسيطر على جل مؤسساتنا المنتخبة هم اليساريون والاشتراكيون والاستئصاليون.. وأيضا الأحزاب الإدارية التي صنعتها الدولة.. وحال هذه المؤسسات غني عن التعريف.. وإذا لم نقم بترشيح مواطنين صالحين.. تربوا على مبادئ الإسلام.. أشخاص أتقياء.. أقوياء.. فلن يكون لنا وجود في هذه البلاد.. والكاريان الذي نعيش فيه سيعرف منافسة شديدة بين قوى سياسية اشتغلت سنوات طويلة في دائرتنا.. لكنها لم تعمل على تغيير أحوال الناس إلى الأفضل.. انظروا إلى حال الكاريان مازال هو هو.. ماذا أضاف إليه هؤلاء الاشتراكيون؟؟ لا شيء.. من الواجب علينا إذن أن نتدخل لتغيير هذا الواقع المتعفن.. وأفضل طريقة لتحقيق ذلك هيو ترشيح أناس في المستوى لتحمل هذه المهام الجسام.. ولن نجد أحسن من أخينا «حسن».. له خبرة في معرفة الشأن العام.. وهو ابن الكاريان.. يعرفنا ونعرفه…)