كوندورسيه.. راهنا
المصطفى مورادي
لم يكن القول في التربية عند فلاسفة الأنوار مجرد خواطر وأفكار تمليها سلطة الأنساق، أو مجرد ردود متضمنة في رسائل شخصية موجهة لقراء وأصدقاء كما قد يبدو الأمر ظاهريا عند جون لوك وجون جاك روسو وغيرهما، بل هو قول يقع في جوهر فلسفة الأنوار. فإذا كانت التربية في العصور الكلاسيكية والوسطى تخدم النظام الاجتماعي والأخلاقي والسياسي التراتبي، بحيث يتلقى كل فرد التربية الكفيلة بإخراج طبيعته النفسية (النفس هنا بالمعنى الكلاسيكي) من القوة إلى الفعل، بشكل يجعل من النبلاء نبلاء والجنود جنودا والعبيد عبيدا، فإن التربية في عصر الأنوار كانت في خدمة المساواة والعدالة. المساواة في التنوير العقلي والعدالة في تلقي المعارف الكفيلة بتحرير الأفراد من طبائعهم التي تكبل قدراتهم العقلية وتزيل مخاوفهم الوجدانية ليقرروا مصيرهم بأنفسهم.
إن الجهل هو أكبر عدو للإنسان، يجعله مجرد لعبة في يد دجال يسعى لإغوائه، ولا يستطيع الدفاع بنفسه عن مصالحه ووجوده. فهو مجبر على أن ينصاع بعماء لموجهين لا يحكم عليهم ولا يختارهم، حيث تتمظهر هذه الحالة من التبعية الذليلة، وتستمر عند أغلب الشعوب التي لا تحقق المساواة في التعليم، حيث نجد أعدادا كبيرة من الناس تكون الحرية والمساواة عندهم مجرد كلمات يقرؤونها في كتب القانون وليست حقوقا ينبغي لهم الاستمتاع بها فعليا في تفاصيل الحياة.
فلتقليص اللامساواة الناشئة من اختلاف العواطف الأخلاقية، هناك، أيضا، لامساواة أخرى حيث يكون التعليم العمومي واسع الانتشار هو الدواء الوحيد، فبما أن القانون أقر المساواة بين الناس، فإن التباينات الوحيدة التي تفرقهم إلى طبقات هي التباينات التي تولد من التربية التي تلقوها، وهي ليست فقط في التنوير العقلي، بل في الآراء والأذواق والعواطف، والتي هي نتيجة حتمية. فابن الغني، حسب كوندورسيه، لا يكون في مرتبة ابن الفقير، إذا لم تعمل المؤسسة العمومية على التقارب بينهما بالتعليم، والطبقة التي تكون أكثر حذرا تصبح أخلاقها لطيفة، ونزاهتها واستقامتها أكثر دقة، وفضائلها أكثر نقاء، ورذائلها، على العكس، ستصبح أقل عدوانية، وفسادها أقل إثارة للاشمئزاز وأقل وحشية وأكثر قابلية للشفاء .
يوجد، إذن، تمييز فعلي بين المتعلمين وغير المتعلمين، وبين المتنورين وغير المتنورين، تمييز لن يكون قادرا على تدمير القانون، وإنشاء فصل حقيقي بين المتنورين وغير المتنورين، ينتج عنه بالضرورة تحولها لأداة للسلطة بالنسبة للبعض وليست مجرد وسيلة لسعادة الجميع.
يتطلب الواجب الاجتماعي، المرتبط بتعميم المساواة في الحقوق بأكبر قدر ممكن، ضرورة تمتيع كل إنسان من التعليم الضروري ليمارس وظائفه بكل حرية، كرب أسرة وكمواطن، وأيضا ليقدر ويعرف كل واجباته. لهذا من المهم أن يكون هناك شكل من أشكال التعليم العمومي من أجل أن تظهر كل المواهب، لكونه يمنح لهذه المواهب كل المساعدات الممكنة، والتي لا يحصل عليها عادة إلا أبناء الأغنياء، مثلما رأينا، أيضا، في القرون المظلمة. من هنا جاءت عدة مؤسسات تسعى لتربية الفقراء.