حسن البصري
لكل مدينة أو قرية نجوم يمارسون «فن القرب»، يصنعون الفرجة في الأفراح وفي التجمعات وعند الضرورة القصوى ينتقلون إلى الساحات العمومية، حيث يمكنهم عرض أعمالهم أمام جمهور آخر، من خلال فن الحلقة وهو أول مسرح جماهيري في المغرب.
يقول الباحث حسن نرايس إن فرجة الحلقة أو الدرب، «تحتاج إلى توثيق رصين، منها ما كان فضاء للفكاهة والبسط وفن الإضحاك من خلال رصد التعابير الفنية للرواد منهم: بوجمعة الفروج، وبقشيش وخليفة وبوغطاط، الطاهر زعطوط والغازي ونعينيعة والصاروخ ومروض الحمير وغيرهم كثير».
يختلف صانع الفرجة الشعبية النكرة، عن نظيره النجم الملفوف في ثوب الشهرة، بإصرار الأول على كسر جميع الحواجز فلا خطوط حمراء في خطابه، فيما يحرص المشاهير على تكليف وكلاء أعمالهم في جميع المعاملات. لكن العبور من ضفة المغمورين إلى ضفة النجوم، ظل متيسرا لمن يملك درجة عالية من الإصرار والرغبة في الانتقال من فرجة شعبية متاحة للجميع إلى فرجة مؤدى عنها، ينقلها التلفزيون ويحتضنها المسرح والسهرات العامة والخاصة.
لهذا لا يتردد كثير من نجوم الطرب أو الفكاهة في الاعتراف بانتقالهم من الفضاء الفوضوي إلى فضاء منظم من الحلقة إلى المسرح أو التلفزيون، كحميد الزاهر والحسين السلاوي وبوشعيب البيضاوي وقرزز ومحراش وغيرها من النماذج والأشكال والألوان التي يزخر بها «الريبرتوار» الذي تتقاطع فيه الفكاهة بالطرب.
لكريمي.. الكوميدي الخارج دوما عن النص
اسمه الحقيقي محمد بلحجام، لكنه اشتهر بلقب «الكريمي» نسبة لجماعة الكريمات التابعة لإقليم شيشاوة، من مواليد سنة 1961، كانت بدايته في الدوار حيث عرف بإجادة النكتة قبل أن يدخل الأسواق الأسبوعية لينشر السخرية، بشكل مرتجل ويجعل من عائداتها دخلا ماليا يختلف من يوم لآخر. هكذا انتقل محمد من مجرد فكاهي الدوار وأعراس المنطقة إلى فكاهي يقتات من السخرية.
مارست ساحات «الحلاقي» في الصويرة جاذبيتها على لكريمي من أول نظرة، فقرر أن يغزوها على غرار عدد من صناع الفرجة وباعة الأعشاب وممارسي الرياضة في الهواء الطلق. في مدينة الصويرة كانت الحلاقي تقام في عدد من الساحات، وتعول على إكراميات الحضور، والتي قد تكبر أو تصغر حسب المتفرج ومكانته الاجتماعية.
جاء قرار منع إقامة لحلاقي في الصويرة فانتشر لكريمي في أسواق الشياظمة، وأضحى عنصرا فعالا فيها خاصة وأن اسمه قد بدأ يشع في المنطقة بسبب عمل ساخر ظهر في الأقراص المدمجة سنة 2002، ارتفعت قيمته أيضا حين تم تداول أعماله الفكاهية في فيديوهات خاصة مسجلة في أعراس ومواسم الشياظمة، ما مكنه من دخول بيوت المغاربة ونشر فنه خارج المنطقة.
صحيح أن مضامين أعماله فيها نوع من الانفلات على مستوى النص، حين يتناول مواضيع الزواج والحب والعلاقات الزوجية عامة والهجرة القروية، إذ يتجاوز الخطوط الحمراء ويصبح من الصعب متابعة أعماله في وسط عائلي. فـ «القاموس الذي كان يستعمله الكريمي لا يصلح للجلسات العائلية في القنوات التلفزيونية، أو حفلات رسمية»، هذا هو الرد الذي كان يتلقاه لكريمي كلما تم اقتراح اسمه على المستوى الرسمي. فقط كانت له إطلالة فريدة في برنامج «نغمة وأتاي» على القناة الأولى، شعر فيها الفنان الساخر بما يشبه الاختناق وهو يتناول مواضيع بمعالجة قابلة للاستهلاك العائلي.
في نهاية الأسبوع الماضي، لفظ الكريمي أنفاسه، في مستشفى بن طفيل بمراكش، بعد تعرضه لإصابة بليغة بسبب حادثة سير إثر اصطام دراجته النارية بسيارة، مات الرجل الذي أضحك القرويين متأثرا بنزيف حاد، ارتسمت على وجهه تقاسيم الألم بعد أن كانت الابتسامة لا تفارق محياه. وخلفت وفاة الممثل الكوميدي، صدمة كبيرة في الساحة الفنية ووسط جمهوره الذي تفاجأ بخبر وفاته، خاصة وأن الراحل كان يحظى بشعبية كبيرة ويتميز يحسه الكوميدي.
بعد وفاته عبر المغني الشعبي عبد العزيز الستاتي عن امتعاضه من وزارة الثقافة، بسبب تهميشها للممثل الكوميدي الراحل محمد بلحجام، واصفا إياه بكوميدي الشعب، وذلك بسبب عدم تقديمها العزاء لأسرته معتبرا هذا السهو غير المبرر بـ «الإهانة».
ونشر الستاتي الذي تربطه صداقة وثيقة بالراحل، تدوينة عبر صفحته الرسمية في فيسبوك جاء فيها: إن عدم تنزيل العزاء للفقيد الفنان الشعبي لكريمي بالموقع الرسمي لوزارة الثقافة يعتبر إهانة مباشرة لروح الفقيد وللفن الشعبي المغربي بصفة عامة.
اخليفة.. مونولوغسيت حول الموت إلى نص ساخر
سطع نجم المغني الكوميدي والمونولوغيست اخليفة في بداية السبعينات من القرن الماضي، ورغم أنه من مواليد الزمامرة إلا أنه استقر في الدار البيضاء، وبدأ يتردد على الحلقات المتناثرة في أحيائها بالحي المحمدي وسباتة والحي الحسني ودرب غلف، كما كان يتردد على الأسواق المتواجدة في ضواحي العاصمة الاقتصادية خاصة برشيد وتيط مليل والسوالم وأولاد جرار ومديونة.
يقول عنه الباحث المغربي الجيلالي طهير: «كان الفنان الكوميدي الشعبي المرحوم اخليفة يعيش بيننا، حيث كان يقيم الحلقة رفقة معشوقته آلة الكمان التي لازمته كظله، حيثما حل وارتحل. فأطرب معجبيه وأمتعهم، ساعد المكروبين على العلاج بالترويح عن النفس، وأتاح للجميع فرصة التغلب على الخوف بواسطة الضحك من المصاب الجلل».
عرف بمونولوغه الشهير حول الموت، وظل يرسم من مخياله الشعبي سيناريوهات الفناء والحساب، على غرار روايات كبار الأدباء، في قدرته على تناول الموت في قالب فلسفي/ فكاهي. فاخليفة، هذا الرجل النحيف قمحي البشرة، كان يفلسف السخرية ويسخر من فلسفة الحياة عند الناس. حتى وهو يتناول موضوع الموت المرعب فإنه يستطيع أن ينتزع الابتسامة من المتحلقين حوله، وبين الفينة والأخرى كان يقدم فاصلا خارج السياق بمثابة تهوية للحلقة التي غالبا ما تكون معزولة بعيدا عن باقي الحلقات لأن أصوات مكبرات الصوت كانت تزعجه.
يبدأ المونولوغ الغنائي عند اخليفة بالحمدلة فيحضر الحكي بارتجال عفوي ساخر من خارج النص، ترافقه أنغام موسيقية يعزفها الفنان ببراعته على آلة الكمان المتربة، وبين الفينة والأخرى يتوقف لجمع ثمن الفرجة من الحاضرين من خلال دورتين أو ثلاث داخل الحلقة تكون فرصة للسخرية من المتفرجين الذين يفضلون الفرجة المجانية.
الملاحظ أن اخليفة ظل يتحاشى الغوص في ثنائية الفقير والغني، والسليم والمعاق، المسلم والمسيحي، بل كان الإنسان هو موضوعه الأول في مختلف تفاصيله.
وكتب الإعلامي سعيد قاسمي عن اخليفة فنان جيل السبعينات قائلا: «فضاءات الحلقة تستحضر اسم الفنان الكوميدي اخليفة رحمه الله، ما يعني أن هذه الشخصية، كانت تحظى باهتمام كبير من قبل كل الذين ارتبطوا بالحلقة في الدار البيضاء. كان يكتفي بحلقة صغيرة الحجم، لكن منتوجه داخل هذا الفضاء الدائري كبير جدا، حيث كان يعزف على آلة الكمان (الكمنجة) وهو عزف لا أساس له ولا مقامات، يصفه اخليفة بالعزف «لملاوط» وعندما يجهد نفسه في الضرب على الكمنجة مبتر الوتر».
ويضيف قاسمي في وصفه لخليفة: «اللباس الذي كان يرتديه، يوحي بالفقر والحرمان، سروال رث، حزام من القنب، ينتعل نعلا بلاستيكيا في كل الفصول، ينصب حلقته، وينتظر ما يجود به المتحلقون حوله، وإذا لم ينفحوه ببعض الريالات، يتمدد على الأرض، ويضع دراجته الهوائية فوق جسمه النحيف ويقول لهم (تفرجو فيا راني داير كسيدة) أو يغادر الحلقة غاضبا من الحاضرين متوعدا بإقامة حلقة أخرى بأشخاص آخرين.
كيرا.. كوميدي الحي المحمدي الذي خلد ناس الغيوان ذكراه
على نقيض لكريمي واخليفة ظل الفنان الساخر حميدو كيرا المولود في حي سوسيكا، حريصا على صناعة فرجة القرب، كان يخص بإبداعاته أبناء كريان سنطرال ودرب مولاي الشريف وغيرهما من مجالات الحي المحمدي. لم تطأ قدماه الحلقة ولم يسع إلى المسرح على الرغم من محاولات أصدقائه.
وصفه الباحثون في تاريخ الحي المحمدي بـ»البوهالي الحكيم»، الذي ولدت معه النكتة الساخرة التي تنبني على سرعة البديهة، وقال عنه الباحث حسن حليم إنه «كان يملك قاموسه اللغوي الخاص، ينهل منه جملا وعبارات تفاجئك وتبهرك. يطوقك سكونه وهدوؤه، ويرغماك على الإنصات بتمعن، والانصياع إلى نظرات عينيه الثاقبتين».
غالبا ما كان كيرا يحول جلساته في الزقاق والمقهى والملعب والحافلة إلى مسرح مفتوح للفرجة، لا ينتقي كلماته بل يرمي بها في وجه المتلقي لتبعث في المكان والزمان الفرحة، صولاته وجولاته، يعرفها الصغير والكبير من أبناء الحي المحمدي ومن خارجه.
للفتى الأسمر قدرة خارقة على إنتاج المواقف الساخرة «كاغ»، فيها آنية ومتناغمة ومنسجمة مع موضوع اللحظة. منها ما تجاوز الحي واقتحم النصوص المسرحية، ومنها ما ظل أبناء الحي القدامى يتداولونها إلى أن صارت حديث المقاهي، والجلسات والأعراس.
نقل كيرا في قالب كوميدي آهات سكان كريان سنطرال بالحي المحمدي، فأضحى اسما من أسماء مبدعي هذه المنطقة المناضلة على غرار أفراد المجموعات الغنائية ومسرحيي الحي وفنانيه عامة، وإن كان الرجل يرفض أن يقتات من نكته.
«عندما يتكلم «كيرا» تتوقف عقارب الساعة ويستريح معها الزمن لفترة، ليفسح المجال لإبداعاته الطريفة المستنبطة من الواقع المعاش ومن طبيعة الفضاء المؤثث له. نكته ليس لها موضوع واحد محدد، بل هي مجرد خواطر وأراء وملاحظات مضحكة، يستغلها لإضفاء نوع من السخرية والنقد اللاذع» كما يقول الباحث ذاته.
كان كيرا يقتات بعرق جبينه حيث كان بائعا متجولا وعبر في أكثر من مهنة، ومن أشهر الطرائف التي تروى عنه حين كان يبيع «الحريرة» بأحد الأسواق، خاطبه أحد الزبائن «واسي كيرا حشومة عليك، هاد لحريرة لقيت فيها سراق الزيت» أجابه «كيرا» واش مخلص درهم أوباغي تلقى فيها دجاجة».
كان العربي باطما من أشد المعجبين بكيرا إذ ربطتهما علاقات مبنية على الصدق والعفوية وتبادل النكت والطرائف والمستملحات، لهذا تتضمن أغنية لمجموعة ناس الغيوان إشارة لهذا الفتى الأسمر حيث اعتبرت عزاء في رحيله وهو الذي مات في عز شبابه، والأغنية التأبينية من تأليف الراحل عبد الرحيم بوعسرية.
ظل الرجل يرفض السياسة ويبتعد عن حملات المنتخبين مهما قدموا له من إغراءات، وكلما طلب منه مرشح التصويت لفائدته، يرد كيرا قائلا: «سأصوت عليك وبعد الانتخابات تنجر لي بطاقة التعريف الوطنية» حينها ينسحب المرشح لأنه يعلم أنه لا تصويت بدون بطاقة. الحب الأكبر لكيرا كان للغيوان والاتحاد البيضاوي.
العياشي.. أول مروض للحمير في المغرب
يحتفظ أبناء الجديدة الأولون بأسماء صناع الفرجة الذين جعلوا من الساحات العمومية والأزقة مجالا للاشتغال المباشر مع الجمهور من كل الفئات، في هذه المدينة ظهرت أسماء عديدة أبدعت في انتزاع الضحك من الدكاليين ونجحت في رسم الابتسامة على محيا البسطاء أبرزهم زعطوط وولد قرد واخليفة والغازي ثم «مول لحمار».
من يكون مروض الحمير الذي حول الحلقة إلى «سيرك»؟ إنه عبد الصمد العياشي، ابن قبيلة بني دغوغ قرب أولاد عمران، والذي عاش في دكالة ومات في سلا. يعد العياشي أشهر مروض للحمير في الحلقة إن لم يكن مبدع الترويض في فضاء خارج السيرك. بإشارة منه يأمر حماره فيتظاهر بالموت، ويبدأ في رثائه على نغمات ضربات مقص.
حسب عبد الله غيتومي الباحث في تاريخ دكالة، فإن العياشي كان يحمل لقب «موات الحمير»، وليس مروضها، وهو الوحيد الذي برع، بشكل لافت للانتباه، في التواصل مع الحمير، وجعلها رفيقة دربه في فن الحلقة، يكلمها فتستجيب، ويأمرها فتمتثل، ويحرضها على التدخين والفوضى فتفعل.
ليس العياشي هو المروض الوحيد للحيوانات في المغرب فقد اشتهر مروضون لحيوانات متعددة، مثل «الرحالية» وأبنائها المعروفين بترويض الثعابين، والشرقاوي في ترويض الحمام، وآخرين في ترويض القردة والكلاب.
يقول غيتومي: «لقد كتب لي يوما لقاء العياشي، قبل موته بشهرين، عن سن تناهز 75 عاما، في موسم سيدي امحمد المجدوب، بجماعة «موالين الواد»، بإقليم بنسليمان، وقال لي حينها إن «جميع الحيوانات سهلة الترويض، إلا الحمار، فترويضه يجب أن يراعى فيه أن يكون جحشا صغيرا، أما إذا كبر، فإنه يصبح كسولا ولا يستوعب بسهولة»، قبل أن يضيف أنه مارس هذه الحرفة أزيد من 50 سنة، ونجح في أن يؤكد للجميع أن الحمار على قدر كبير من الذكاء، وأن نظرة الإنسان إلى الحمار يجب أن تتغير».
للعياشي صولات وجولات في موسم الولي الصالح مولاي عبد الله أمغار، حيث قال: «كنت أحمل حماري بواسطة سيارة رونو 4، وأزوده بكميات من التبن، وأقصد، في الأسبوع الأول من غشت من كل سنة، موسم مولاي عبد الله، وهناك كنت ألتقي، كل مساء، بـ «المحرك»، برواد الحلقة الكبار، ومنهم عزوز ولد قرد، والطاهر زعطوط، ونعينيعة، والصاروخ واخليفة والغازي. لقد كنا ننشط الناس ونفرج عنهم».
بوجمعة الفروج.. راعي الغنم يتحول إلى معلم للرواد
خلافا لما يتبادر إلى ذهن الكثير من المغاربة فإن بوشعيب البيضاوي ليس هو أول مغربي يتقمص شخصية المرأة في العروض الغنائية والمسرحيات، فقد سبقه إلى ذلك بوجمعة الفروج الذي ظل حتى نهاية الأربعينيات يضطلع بتمثيل الأدوار الفكاهية الشعبية، ويقلد المرأة بارتدائه زي النساء، وكان يجعل من الحلقات في الأحياء الشعبية فضاء لفرجته.
حسب عبد الواحد التطواني في حديث صحفي حول تاريخ الموسيقى والطرب الجماهيري، فإن بداية الأغنية المغربية وانطلاقتها الفعلية لا تتوقف عند عهد الاستقلال وتحديدا سنة 1956، بل إن انطلاقتها الحقيقة كانت في 1930على يد أحد الرواد وهو مولاي بيه الفيلالي، الذي اشتهر بإتقان فن الحلقة.
بدأ الفيلالي علاقته بالطرب الفرجوي، من ساحة جامع الفنا، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء وتحديدا منطقة «القريعة»، وهو المكان الذي حقق فيه شهرة واسعة، يقول التطواني، مضيفا أنه كان يقدم عرضا بمثابة مسرح غنائي.
وخلال الفترة ذاتها كان في تافيلالت الفنان بوجمعة الفروج، الذي يعمل راعيا للإبل والماعز، ويهتم كثيرا بالموسيقى، إذ لم يكن يفوت فرصة التنقل بين مختلف المواسم ذات الطابع الديني المنظمة في المناطق المجاورة.
«كانت بداية التعارف بين بوجمعة الفروج ومولاي بيه الفيلالي، حين حل هذا الأخير لتقديم فن الحلقة على هامش أحد المواسم بمنطقة تافيلالت، ليقرر في ما بعد العودة رفقته إلى البيضاء والتعاون في تقديم أعمال مشتركة في «لقريعة» بحي سيدي عثمان وفي مناطق أخرى».
كان الفروج يعزف على آلة الإيقاع بينما كان «الكنبري» من نصيب الفيلالي الذي كان يحمل معه أكياسا كبيرة يضع فيها ملابس نسائية وشعرا مستعارا حتى تكتمل الفرجة، يضيف التطواني في حديثه عن فرجة الثنائي البيه والفروج الذي اعتبر في تلك الفترة مسرحا متنقلا.
سرعان ما تعلم بوجمعة الفروج قواعد فن «الحلقة» وهو يرافق مولاي بيه الفيلالي على آلة «البندير»، بينما كان يؤدي مقاطع غنائية، كانت تحظى بإعجاب المتتبعين.
ويحكي التطواني أنه خلال الفترة ذاتها في مرحلة الثلاثينات كان الحسين السلاوي، الذي حقق شهرة بعد سنوات من ذلك طفلا يعرف بلقب «ولد عايشة»، يتنقل إلى البيضاء لمتابعة عروضها بـ»القريعة»، حيث تعرف على بوجمعة الفروج واقترح عليه الانضمام إلى فرقته. لذا كان الحسين السلاوي في البداية يتعلم هذا الفن بمساعدة بوجمعة الفروج ومولاي بيه الفيلالي، اللذين اكتشفا موهبته ورغبته في دخول عالم الغناء.
الكوميدي الحسناوي.. مات وبطاقته محتجزة في صيدلية
يعتبر عبد الكبير الحسناوي واحدا من رواد الأغنية الساخرة في المغرب، فقد تفتقت موهبته الكوميدية منذ الصغر، وبالحس التدلاوي راهن على اقتحام هذا العالم بكل جرأة ودون أدنى اعتبار للخطوط الحمراء، وتلك هي نقطة قوته التي جعلت من حلقته نقطة استقطاب لعشاق الكوميديا الارتجالية المرفوقة بالنغم الملائم.
خصص الباحث في تراث الحي المحمدي اللامادي حيزا مهما لتمظهر ثالث لفن الحلقة في الحي المحمدي، ويتعلق الأمر بحلقة الثنائي: «عرفت الحلقة في منطقة الحي المحمدي مجموعة تتشكل من ثنائي يقوم، إلى جانب التنكيت وإضحاك المتفرجين، بإنشاد قصائدَ زجلية بدوية أو عيطات معروفة، بواسطة آلة الإيقاع وآلة عزف وتَرية. ورغم أن هذه المجموعات كانت متعددة فإنني أحتفظ في ذاكرتي بثنائي كان مشهورا، وهو «الثنائي الحسناوي» والشخص الرئيسي فيه الجيلالي الحسناوي، ظل يمارس إلى عهد قريب، رغم أنني حضرتُ حلقته سنة 1960».
كان هذا الثنائي يقوم إلى جانب التنكيت وإضحاك المتفرجين بإنشاد قصائد زجلية، بدوية أو عيطات معروفة، وكان هذا النوع من الحلقة مرتبطا بما ينشد في الحفلات والأعراس، تتخلله بعض النكت العارضة ومواقف ساخرة تنتقد حالة اجتماعية شاذة، وعمل الثنائي الحسناوي خلال عقد الستينات، على الجمع بين الأغنية والنكتة، حيث قدم هذا الثنائي فرجة متميزة يسخر من خلالها من الشخص المتمدن المزيف الذي يصنع الحضارة، ويسخر من النساء المتحدقات، وينتقد بشدة سلوك العاقين من الذكور والإناث، ومن أبرز الأعمال الخالدة للحسناوي رائعته «زوجة واجدة لرجلين».
كانت نهاية الرجل الذي أضحك البيضاويين حزينة فقد استبد به المرض ولم يجد ما يشتري به الدواء، بل إنه مات وبطاقته الوطنية رهينة في إحدى صيدليات حي البرنوصي.
وهناك شخص آخر يعتبره البيضاويون رائد السخرية، ويتعلق الأمر بالشيخ علي. في بحثه المعنون بـ «الحي المحمدي رافد من روافد الثقافة الشعبية»، يسلط الباحث بوشعيب فوقار الضوء على هذه الشخصية فيقول: «كان نموذج حلقة الشيخ علي يعتمد على خفة الظل وإلقاء النكتة والتفنن في أسلوب إلقائها، حتى إنه ليكرِرها أياما عديدة، دون أن يمل المستمع تكرارها، وأغرب ما في هذا الرجل -رحمه الله- أنه كان «يخترع» النكتة في نفس اللحظة، يستمدها أحيانا من الحاضرين، وقد يتخذ جسمه القصير النحيل ورأسه الأصلع وفمه «المتهدم» موضوعا لنكتة عابرة للقلوب».
أغلب مواضيع نكت الشيخ علي كانت تدور حول صعوبة الحياة، وارتفاع الأثمان، مع قلة ذات اليد، إلا أن موضوع المرأة بشقيه الجيد والقبيح كان يأخذ نصيبا وافرا من قفشاته و«مونولوغاته»، حتى إن بعض النساء المتفرجات كن يتبرمن من إغراقه ومبالغته في انتقاد سلوك المرأة في بيتها ومع أبنائها وزوجها، بأسلوب يكون دائما فاضحا.
وفي تناول هذا الرجل للنكتة، كان يخصص حيِزا مهما لموضوع متداول ومشهور، أي المقابلة بين البدوي الساذج الصريح والقوي، وبين المتمدِن الضعيف، المراوغ والذكي. وإرضاء للشعور البدوي السائد بين المتفرجين، فإن البدوي كان دائما يحوز الإعجاب وينال الحظوة، وقلما كان منهزما في نكت ومونولوغات الشيخ علي. «ما يمكن أن يستفاد من هذا النموذج هو اكتساب الأسلوب الساخر والمتندر، مع بصمات كاريكاتورية في وصف الأشخاص والأشياء»، يقول فوقار.
النكتة لشواري كذوب والطرب لليهودي ديفيد
لم تنل مدينة مراكش وساحة جامع الفنا صفة التراث العالمي الإنساني بالصدفة، فقد كان هذا الفضاء ومازال مجالا لصناعة الفرجة، بالرغم مما ينهش جيدها من حس تجاري بسبب زحف المطاعم على المكان، ما يجهز على القيمة الثقافية للساحة ويحولها إلى مجموعة مطاعم.
حسب الباحث أبو طاوس عبد الرزاق، فإن أشكال الفرجة الشعبية خرجت من هذا الفضاء، وشكلت الحلقة «نواته» وبذرته التي طوعت للمسرح التراث، حكاياه، وشخصياته، بل أبعد من ذلك، أن الحلقة خلقت شخصيات أحيطت فيزيولوجيا بالهالة وشخصياتها التي تلبس وتتقمص أدوارها المستعتبة حينا، والعبثية آخر، والمترصدة لحركية التغيير والتصادم بين ثقافة الانتقال من قيم المحافظة والوراثة للتقاليد، إلى ثقافة التجاوز للعرف، ومن أبرز شخصيات الفضاء «شواري كذوب» و«طبيب الحشرات»، وباقشيش والصاروخ وبن حمامة، وأولاد السكوري وولد قرد ثم لمسيح»..
ويقول أحمد رمزي الغضبان في كتابه «الذاكرة الغنائية المراكشية»، إن ساحة جامع لفنا أنجبت العديد من صناع الفرجة وتوقف في الكتاب ذاته عند كل شخصية، مشيرا إلى أن ميلود شواري كذوب كان أول من جعل من الكذب نصا للعمل الإبداعي. خلق من خلاله الإحساس الجمالي الجمعي بفن المسرح، في نطاق العلاقة بالتراث.
عرف ميلود بأغنيته الشهيرة «أشتا تاتا تاتا» التي يرددها المغاربة دون أن يعرفوا صاحبها، كما كان المراكشيون يتغنون بها في فضاءات النزاهة، وهو صهر أولاد مولاي بوستة رائد المونولوغ.
وكشف أحمد رمزي عن وجود شخصية يهودية كانت تنشط الفضاء، ويتعلق الأمر بديفيد المغربي اليهودي الذي كان فنه نموذجا للتسامح بين الأديان، لم يكن وحيدا بل شغل يهوديا آخر كمصور مع الزائرين والسياح، كما اشتغل مطربا في أفراح طائفة اليهودي بالملاح.
كان ديفيد يجيد أغاني «قفطانك محلول»، «هاكا ماما»، «صدرك على صدري»، وغيرها كثير من الأغاني القديمة التي مازالت حاضرة رغم مرور عقود طويلة على خروجها إلى الوجود، ومازالت تطرب الآذان وترددها الألسن، ولكن دون أن يدري الكثيرون أنها أغاني أبدعها فنانون مغاربة يهود كانوا في وقت من الأوقات يحظون بشهرة واسعة كما كانت أغانيهم تتردد في المغرب وخارجه.