كول ووكل
شامة درشول
مرت أيام على نشر مقالي الذي عنونته بـ»عقلية فاسدة»، ومع ذلك ما زلت أتلقى بشأنه رسائل من القراء يثنون عليه وما جاء فيه، ويعتبرون أن الزاوية التي اخترتها لطرح هذا الموضوع كانت مختلفة وجريئة، حتى أن أحد القراء ممن يحرصون على مراسلتي بعد كل مقال كتب لي أنه اضطر لقراءة المقال عدة مرات لأنه احتوى أسلوبا غير أسلوب الحكي الذي اعتدت استعماله في مشاهداتي العابرة.
أغلبنا تابع مونديال روسيا، وكثير منا أشاد بحسن التنظيم، وبروسيا اليوم، غير روسيا التي حرصت «هوليوود أمريكا» على نقلها إلى أذهاننا، روسيا المافيا، والسلاح والمخدرات، والخوف والظلم، وانتهى «مونديال بوتين»، ونحن نرى فيه «الرئيس البطل»، غاضين الطرف عن دوره في حرب سوريا، وفي الأزمات التي تعرفها دول الخليج اليوم، وأيضا في قدرة روسيا بوتين على اختراق الانتخابات الأمريكية، ومساومة ترامب، بل ومساعدته على الصعود لكرسي الرئاسة. لا أحد يذكر هذا، فبوتين رجل قوي، وبطل وطني، وأعاد الهيبة إلى روسيا، وجعل منها ما هي عليه اليوم، هذا فقط ما نذكره عن بوتين، أو ما نريد أن نذكره. فالإنسان بطبعه يميل للتماهي ليس فقط مع صاحب السلطة، بل أيضا مع من يجمع بين القوة والسلطة في رداء البطولة، وبوتين فهم هذا، وقدم لشعبه، وللعالم، نفسه على أنه بطل. لذلك الناس يتغاضون عما يخفيه رداء البطل من ذاك الذي يطالبون بمحاربته، واسمه «الفساد».
هناك حقيقة علينا نحن المغاربة فهمها والوعي بها، وأن الفساد هو واقع موجود في كل بلدان الأرض وبدون استثناء، وأن الفرق لا يكمن في وجود الفساد في دولة دون أخرى، أو فقط في دولنا نحن «كحل الراس»، دون دول «أشقر الراس»، بل يكمن في وجوده بنسب متفاوتة، وأيضا بأشكال مختلفة، فالفساد يملك دولابا كبيرا مليئا بالملابس الكثيرة والمناسبة لكل مكان وزمان وثقافة.
في مقالي السابق، ضربت مثلا بكندا التي شرعت قانونا يسمح للمواطنين باقتناء، واستهلاك وبيع الماريخوانا. كان هذا واحدا من الأمور التي وعد بها جاستن ترودو عن الحزب الليبرالي ليقنع الكنديين بالتصويت لحزبه. دافع ترودو عن برنامجه الانتخابي بأن كندا تفقد الملايير بسبب منع بيع واستهلاك الماريخوانا، وأن هذه الملايير تذهب إلى جيوب المهربين، وأن مكانها الطبيعي هو خزينة الدولة. وليكون مقنعا أكثر، قال ترودو إن الماريخوانا سيشرع باستهلاكها لأسباب طبية، وإن عائداتها سوف تمنح لمعاهد البحث العلمي التي ستشرف على استخراج منافع الماريخوانا، وأيضا على معالجة المدمنين، ومن زار أو أقام في كندا لا بد وأن يلحظ بأم عينه الشباب الكندي رجالا ونساء، وهو يقف أمام بوابة محطة المترو مستجديا بعض المال بدعوى أنه جائع، في حين أنه جائع لجرعة من المخدر.
الكنديون، وأولهم ترودو، يعرفون أن تشريع استهلاك الماريخوانا ما هو إلا طريقة أخرى من أجل الحصول على المال للخزينة، بمعنى أن الدولة سمحت بـ«تشريع الفساد»، فالمخدرات هي فساد، وعجزت الدولة عن محاربته، بل تجد نفسها بمنع هذا الفساد تتسبب في ثراء آخرين. لذلك وجد حزب رأسمالي مثل الحزب الليبرالي مدخلا لتشريع هذا الفساد، وإقناع المنتخبين بأنه «فساد حلال»، بما أنه سيسمح لهم بتدخين الماريخوانا، وفي الوقت نفسه لن يكونوا تحت مطمع المهربين، ولا سيف الدولة. بمعنى آخر، الدولة من خلال الحزب الليبرالي، عقدت اتفاقا بينها والمواطن الكندي مفاده «سأمنحك حق التدخين دون أن يكون مصيرك السجن، وستمنحني المال الذي تعطيه للمهربين»، ووافق المواطن على الأمر، أي أن المواطن وافق على هذا النوع من الفساد.
الأمر نفسه قامت به الدول الرأسمالية، في ما يخص تقنين الدعارة. حين زرت بروكسيل لأول مرة، سمعت بما يعرف بـ«الحي الأحمر»، تملكني فضول قوي لزيارة هذا المكان الذي يقولون إن به نوافذ زجاجية تقف خلفها نساء جميلات عاريات. حين ذهبت إلى هناك عدت إلى الفندق وأنا أبكي، فسخر مني أصدقائي المقيمون ببلجيكا، وكانوا عربا، وقالوا لي: «إنهن يدفعن ضرائب، هذه مهنة، ولا يجب أن تشعري بالشفقة عليهن».
لم أتقبل يوما أن تقدم المرأة جسدها من أجل المال، وهذا هو تعريف الدعارة، أن تقوم بالجنس مقابل المال، لكن في أمريكا، وبلجيكا وهولندا، وغيرها من الدول، وجدت أن شابات طالبات في الجامعة يرين أن أيسر طريق للحصول على مال كثير في زمن وجيز من أجل تمويل دراستهن الجامعية، هو مصادقة رجل ثري تقدم له الطالبة جسدها الغض مقابل إمتاعه، أو تحصل على عمل كراقصة تعرٍّ في إحدى الحانات، وكل هذا يتم تحت طائلة القانون، وبتشريع من الدولة، الدولة التي وجدت أن تشريع الفساد يكون منتجا وأن محاربته تكلفها الكثير.
حين تفجرت قضية ما يسمى «أوراق بنما»، توقع الكثيرون سقوط رؤوس كثيرة، إلا العالم الغربي لم يهتم بهذه «الأوراق»، فهو يعلم أن على أرضه ابتكر ما يسمى «الجنة المالية»، الدول التي توفر لك بنوكا يمكن أن تودع فيها أموالك دون أن يسألك أحد من أين لك هذا، وبدون ضرائب مكلفة، وبدون قيود على حركة الأموال، وهي جنة توجد في دبي وسويسرا، ومالطة، وهونغ كونغ وبنما، وغيرها..، نسميها نحن «الفقراء» تهربا ضريبيا، ولكننا نجهل أننا سنلجأ إليها حالما نتحول إلى أغنياء.
لنتأمل حكام العالم، ترامب يمارس الفساد كل دقيقة ولم أسمع في المغرب من يصف ترامب بالفاسد، ساركوزي يتابع بتهمة الفساد، ومع ذلك لم أسمع من يتهم فرنسا بالفساد، جاستن ترودو بدوره يمارس الفساد كل دقيقة، لكن لا أحد ذم وشتم كندا ووصفها بدولة الفساد، ذلك لأنهم، دون أن يشعروا، يمجدون «الفساد المنتج»، أي أن المواطن مستعد للتماهي مع الفساد حين ينتج هذا الفساد فرصة عمل له ولأبنائه، وقد قالها سابقا حين دعا لـ«كول ووكل».
محاربة الفساد شعار ينادي به الفقراء فقط، معتقدين أن محاربته ستنقذهم من الفقر، ولا يعرفون أن محاربة الفساد لا تزيدهم إلا فقرا، ولا تزيد الأغنياء إلا غنى، وأن الحل هو في ما قاله بوتين: «الفساد عقلية»، وأن على المغرب، المواطن قبل الحاكم، أن يقرر ويختار، عقلية فاسدة، أو الفساد عقلية، فالفرق بينهما كبير، العقلية الفاسدة تعني أن تأخذ من الفقير لتغتني أنت وحدك، والفساد عقلية يعني أن تجعل من الفساد وسيلة للإنتاج، تنتج فرص عمل للفقراء، وتمنح الأمان للأغنياء، غير ذلك فنحن نضيع وقتنا.