شوف تشوف

الرأي

كوفيد بين تنزانيا والدانمارك

 

صبحي حديدي

 

بعض الذين يعترضون على إلزامية التلقيح ضد فيروس «كوفيد- 19»، وضد فرض «الجواز الصحي» بأشكاله المختلفة، واعتبار أحدهما أو كلاهما شرطا لا غنى عنه لمتابعة الحياة الطبيعية؛ لا ينطلقون من مبدأ التمسك بالحرية الشخصية في وجه اشتراطات السلطات الحاكمة، أو بالأحرى ليس هذا وحده هو المنطق الذي يحرك احتجاجاتهم، في أمريكا وكندا وأوروبا عموما.

ثمة، بادئ ذي بدء، سجال حول اللقاح/ اللقاحات، وما إذا كانت فاعليتها الوقائية مسألة تحظى بإجماع علمي أو توافق في الحدود الدنيا؛ وبعض المشاركين في حراك الاحتجاج يتساءلون عن المال والأرباح، واحتكار الترخيص، وتعدد التقنيات والمنهجيات خلف التكنولوجيا الطبية والصناعية التي تنتج أصناف التلقيح، الغربية أو الروسية أو الصينية أو الهندية. وثمة، استطرادا، نقاش حول الهوامش الزمنية القصيرة، التي كانت أقرب إلى اللهاث أحيانا، قبيل اختبار هذا اللقاح أو ذاك؛ وما إذا كان من حق امرئ، حتى من دون أن يكون متشككا مزمنا، أن يحار ويتردد ويمتنع، بين «فايزر» و«أسترازنيكا» و«سبوتنيك» و«سينوفارم» و«كوفاكسين»…

عنصر ثالث في السجال، لعله الأهم والأخطر والأشد إلحاحا في آن معا، هو أن خريطة التلقيح على امتداد الكرة الأرضية لا تدعو البتة إلى الاطمئنان، إذا انطلق المرء من حقيقة العالم الراهن بوصفه قرية صغيرة عالية الاتصال والتواصل والاحتكاك. في عبارة أخرى، إما أن يتلقح العالم بأسره، بدرجات كافية لإشاعة مناعة كونية من نوع ما، أو لا معنى لأن تكون بلدان مثل أمريكا وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والدانمارك ملقحة بنسبة تتجاوز الـ70 في المائة من السكان، وبلدان مثل الجزائر وغينيا وأفغانستان وكوت ديفوار أقل من 15 في المائة، فكيف إذا كانت سوريا 6.6 وأوغندا 4.9 والسودان 4,5 في المائة؟

كل هذا بمعزل عن اختلاط الأجندات في قلب حراك الاحتجاج، بين مجموعات سياسية معارضة للسلطات الحاكمة، طبقا لبنود اجتماعية واقتصادية ومطلبية، ومجموعات شعبوية تمتطي ذريعة إلزامية اللقاح، لاقتناص فرصة تضخيم خرافة السيادة القومية، وثالثة عنصرية كارهة للمهاجر والآخر عموما، ولا تجد غضاضة في نبش أساطير مندثرة مهترئة، مثل النقاء العرقي والبيولوجي. وفي بعض مظاهر هذه المستويات يكمن مقدار غير قليل من حال التأزم التي تعيشها الديمقراطيات الكلاسيكية، سواء لجهة اختلاط الحدود الإيديولوجية بين اليسار واليمين والوسط، أو العزوف المتعاظم لشرائح واسعة من المواطنين تجاه الانخراط في العمل السياسي.

ولا يصح أن تُغفل هنا الدعوات التي تحث الناس على التعايش مع الفيروس، أو التعامل معه على قدم المساواة مع فيروسات الرشح، والعودة إلى الحياة الطبيعية، اتكاء على فرضية بقاء «كوفيد- 19» ومتحوراته الحالية والمقبلة جزءا لا يتجزأ من طبائع الحياة المعاصرة. المبطن طي دعوات كهذه لا يجازف بصحة البشر عموما، ولكن على وجه الخصوص في المناطق النامية والفقيرة التي لم تتلقح مجتمعاتها بعد إلا بمعدلات متدنية؛ بل يلوح أن الرسالة العليا اقتصادية بالمعنى الاستهلاكي، واستثمارية في مستوى إنعاش التصنيع والاتجار، ولم تعد سرا تلك الأرقام المذهلة التي تسرد حقائق أرباح فلكية حققتها الشركات العملاقة في مجالات شتى، وليس على صعيد كارتلات الأدوية واللقاحات.

الأرجح أن «كوفيد- 19» ليس في وارد مغادرة العالم نهائيا، أو حتى بصفة واسعة النطاق؛ وليس في أي موعد قريب، يمكن أن يُضرب للمواطن في الدانمارك، الملقح بمعدل 81,3 في المائة، وأخيه في الإنسانية مواطن تنزانيا (2,9 في المائة) مثلا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى