لم تضرب أزمة كورونا الاقتصادات العالميةَ وحدها في مقتل، وإنما ضربت معها سياسات الدول، أيضا، وخياراتها الاستراتيجية ونهج النخب الحاكمة فيها في إدارة الشؤون العامة.
ولقد كشفت، في جملة ما كشفت عند حدود ادعاءات النخب تلك بخدمة المصلحة العامة والأمة، لتفضح انحيازاتها إلى الطبقات والفئات ذات المصالح الفئوية الخاصة، المالية والصناعية، وجدولتَها سياساتها وبرامجها على إيقاع مصالح تلك القوى التي جاءت بها إلى السلطة. وهي إذا كانت قد أبدت تخبطا ملحوظا في مواجهة جائحة كورونا؛ فطفِئت في ممارسة سياسة تجريبية، متنقلة بين خيار ونقيضه، غيرَ مستقرة على برنامج عمل بعينه (=الأمر الذي أدى إلى سرعة تفشي الوباء وفقدان السيطرة عليه – في الأسابيع الأولى منه- وبالتالي إلى ازدياد عدد الوفيات)، فما ذلك إلا لأنها لم تملك سياسة واضحة تجاه الأزمات الطارئة – من نوع جوائح الأوبئة- ولا ملكت الأدوات والوسائل القمينة بمماسة التكيف الإيجابي مع الأزمات التي تكون من هذا النوع، وتستدعي المقاربة المناسبة؛ المقاربة التي تستحيل ويستحيل معها إحراز نجاح فيها إن لم تكن مسبوقة برؤية متكاملة للتعامل مع الطوارئ وأزماتها المفاجئة.
تردنا هذه الملاحظة – عن تخبط سياسات الدول وتذبذبها تجاه «نازلة» كورونا- إلى أم الحقائق التي كشفت عنها الأزمة الجارية، وكانت في أساس كل ذلك التخبط؛ أعني بها فكرة انهيار التوقع وبطلان البناء عليها كآلية لرسم سياسات المستقبل. إن أكثر الدول الكبرى عملا بمبدأ التوقع في سياساتها الاستراتيجية – وهي الدول الكبرى على وجه التحديد- وأشدها عناية بمؤسسات التوقع؛ من معاهد ومراكز ومجموعات عمل خاصة، لم تحرز أي نجاح في توقع مثل هذه العاصفة الهوجاء من الأزمات التي ولدها تفشي فيروس «كوفيد- 19» في العالم، وصيرورته وباء لا يضرب أبدان الأفراد فحسب، بل يضرب معها مجتمعات ودولا واقتصادات ومبادلات وجيوشا، إلى درجة أن يشل حركة الحياة برمتها، ويحتجز البشريةَ قاطبة في بيوتها! وقف عقل الدول المؤسساتي والمستقبلي مشلولا أمام الضربة المفاجئة للفيروس، وبدا كما لو أن كل ذلك العلم الذي انعقدت عليه رهانات «عقلانية» التخطيط والتدبير (= علم المستقبليات)، عند الدول الكبرى، تهاوى أو هو على الوشك من أن يتهاوى بعد هذا الامتحان العسير الذي أخفق فيه إخفاقا ذريعا.
لا يشبه انهيار التوقع هذا إخفاق استطلاعات الرأي في توقع نتائج انتخابات ما – رئاسية أو تشريعية- في هذا البلد أو ذاك، مثلا، من نوع ما شهدنا على مثالات له في سوابق من المنافسات الانتخابية لم تتطابق فيها حسابات الحقل والبيدر. لا، إنه أكثرُ من ذلك بكثير؛ إذ يسْتَجِر انهيار التتوقع، الذي نتحدث عنه، انهيارا في اليقين: اليقين بسلامة التخطيط للمستقبل، والتكيف مع المتغيرات المتوقعَة أو الداخلة في حسبان الممكن حدوثه. وما من شيءِ أخطرُ في السياسات من انهيار البقين؛ ففي ذلك إعماء لها وتتويه! وما يعيشه العقل التخطيطي، اليوم، مع هذا الشرخ الحاد الذي أصاب عمران التوقع.
اليقين هو مما سيأخذ سياسات الدول نحو تلك الحالة من العمى والتيه؛ الحالة التي لا يمكن أن ترتفع إلا متى حصل نجاح في تصويب جهاز التوقع وإعادة تأهيله، وتوسعة نطاق ميادينه والمادة التي بها يشتغل، والانتقال نحو نظام جديد منه أقل وثوقية ويقينية، وأدعى إلى إعمال مبدأ الاحتمالية في التقدير والاستشراف و- الأهم من ذلك- أكثر مرونة، بحيث يمكنه التكيف الفعال والإيجابي مع الطوارئ المفاجئة إن حصلت ولم يتوقعها، ولكنه وفر الإجابة عنها إن هي وقعت.
إذا أردنا أن نقرب هول انهيار فكرة التوقع – وانهيار مبدأ اليقين معها- نمثل لذلك بسابقة في علوم الرياضيات والعلوم التجريبية قبل قرن وبعض القرن. كان قيام ما عُرف باسم الهنديات اللا أقليدية ونظرية المجموعات الصغرى (أو الفرعية) في الرياضيات، مناسبة لانهيار اليقين الرياضي القائم على البديهيات الأقليدية. ثبت مع الهندسات غير الأقليدية أن ليس هناك من بديهيات تقوم عليها الصروح الرياضية، وهو عينُ ما كشفت عنه نظرية المجموعات الفرعية (التي أبطلت «بديهية»: الكل أكبر من الجزء). في المقابل كشفت عن أن أساس علم الرياضيات هو المسلمات (= أي القضايا العقلية غير البديهية أو الواضحة بذاتها). كذلك وضعت أزمة الفيزياء الدقيقة حدا لليقين العلمي التجريبي، وللركنين الأساسين اللذين قام عليهما؛ مبدأ الموضوعية ومبدأ الحتمية، وذلك حين أثبتت تجربة القياس المختبري لسرعة الإلكترون في الذرة – باستخدام الضوء- أن نتيجة القياس لا تكون موضوعية، لأن شحنات الضوء تؤثر في السرعة الطبيعية للإلكترون. ومع ذلك، لم يمنع انهيار اليقين بمبدأي الموضوعية والحتمية من بناء علم تجريبي، ولكن هذه المرة، على مبدأين جديدين؛ البناء الأكسيومي (=الفرضي – الاستنباطي) ومبدأ الاحتمالية.
هذا ما تحتاج إليه السياسات: إعادة بناء التوقع على أساس نظام جديد أقل انشدادا إلى فكرة اليقين. وهكذا كلما ضَؤُلَ مقدار اليقين في السياسة، علا مبدأ الاحتمال. وفي الاحتمال سيناريوهات وتوقعات عديدة لا حصر لها، ولا تنصرف إلى ما بين اليدين من معطيات معلومة فحسب.
نافذة:
اليقين هو مما سيأخذ سياسات الدول نحو تلك الحالة من العمى والتيه؛ الحالة التي لا يمكن أن ترتفع إلا متى حصل نجاح في تصويب جهاز التوقع وإعادة تأهيله، وتوسعة نطاق ميادينه والمادة التي بها يشتغل، والانتقال نحو نظام جديد منه أقل وثوقية ويقينية، وأدعى إلى إعمال مبدأ الاحتمالية في التقدير والاستشراف و- الأهم من ذلك- أكثر مرونة